الأحد، 14 يوليو 2019

عصافير تغرد من شرفة القصر




            ذات ظهيرة تفاجأ حمدان بجاهزية أخيه ابراهيم وابن عمه سالم للذهاب الى مسقط، كان ذلك في بدايات تسعينات القرن الماضي، فبادرهما بأنه يريد ان يذهب معهما ليشاهد مسقط العاصمة، رفضا قطعا تلك الفكرة، كانا مصرين على عدم اصطحابه، وعندما هما بالذهاب كان حمدان ينتظرهما عند باب سيارة سالم التي سوف تقلهما الى مسقط لحضور ومشاهدة ومتابعة الشاعر العربي الكبير نزار قباني، كان كلا من سالم وإبراهيم قد أنهيا منذ فترة قريبة دراستهما في كلية التربية بصور وأصبحا مدرسين محترمين في القرية التي يقطنان فيها، وكانا أيضا محبين للشعر وخاصة الشعر الغزلي وقد حفظا درزنا من قصائد نزار الغزلية، كانت فترة المراهقة تشعل جذوة الحياة فيهما، قدوم شاعر كبير كنزار ولأول مرة لمسقط في بداية تسعينيات القرن الماضي هو حدث يصعب تفويته على محبيه وحافظي أشعاره ومعتنقي أفكاره والحالمين بالجميلات اللاتي رسمهن نزار قباني في اشعاره.



      
        أصر حمدان الذي لم يتجاوز تلك الفترة الثالثة عشرة من عمره أن يرافقهما رغم أنه لا يعرف نزارا ولم يقرأ له أو يحفظ عنه ورغم أن مفهوم الغزل لم يحرك حواسه بعد، كانت زيارة مسقط العاصمة بالنسبة لحمدان في تلك الفترة شيئا عظيما يمكن ان يتحدث عنه لفترات طويلة أمام أصدقائه في المدرسة والملعب والحارة، سيحدثهم عن برج الصحوة وحديقة ريام وسوق مسقط، أمام إصرار حمدان على الذهاب الى مسقط أذعن إبراهيم وسالم لفكرة اصطحابه معهم، اشترطوا عليه وهم في الطريق الى مسقط بأن يكون مؤدبا وأن لا يحدث فوضى أو أية عمل آخر به صفة الجنون وغياب المنطق، كانا يعرفان أن حمدان هذا فوضوي ولا علاقة له بالشعر خاصة أو الأدب عامة.
      
        استمتع حمدان بأغاني أبو بكر سالم ولحديث أخيه وابن عمه بينما كانت السيارة تقرض الطريق الطويل ذي المسار الواحد، كانت الرحلة تستغرق من ثلاث الى أربع ساعات، كان صامتا يراقب القرى والصحاري والجبال والكهوف والأغنام والرعاة وما يمكن لعينيه ان تلتقطه من نافذة السيارة، توقفت السيارة ثلاث مرات قبل أن يصلوا مقصدهم، توقفت في المرة الأولى لكي تملأ بالبنزين وفي المرة الثانية للتبول وفي المرة الثالثة للصلاة، كانت رحلة مبهجة لحمدان الذي لم يشاهد مسقط كثيرا ويسمع عنها قصصا كثيرة.

        
          كانت الصحف والإذاعة والتلفزيون قد أفاضت في الحديث منذ أيام عن زيارة واستضافة الشاعر الكبير نزار قباني في مسقط، أنتشر الخبر كانتشار النار في الهشيم، كان الحضور المتوقع كبيرا، لقد حددت الأمسية في القاعة الكبيرة بفندق قصر البستان، الفندق الضخم الجديد والذي تستضيف فيه الحكومة الإجتماعات الرسمية وينزل فيه الضيوف الكبار والشخصيات المهمة والرسمية عند زيارتها للسلطنة.

        عندما وصلوا للفندق كانت هناك مجموعة من سيارات الشرطة لتنظيم المرور والمواقف ولمرافقة كبار الشخصيات، بعد عنت وجد إبراهيم مكانا لركن سيارته الجديدة والتي إشتراها بمناسبة توظيفه مدرسا للرياضيات في قريته، إنه من الناس القلة في القرية الذين يمتلكون سيارة جديدة، كانت الشمس قد بدأت تتوارى خلف الجبال بينما بقي اصفرار اشعتها التي تتحول تدريجيا الى حمرة قاتمة، بدا البحر جميلا بزرقته الشاحبة وقت الغروب، تعالت تغريدات العصافير الراجعة لأعشاشها، اندس الثلاثة في الزحمة المتكومة أمام باب المدخل للقاعة الكبيرة في الفندق، عندما استطاعوا العبور والدخول للقاعة كانت طاولات قليلة وبعيدة قد تبقت ولم تشغر بالكامل بعد، كانت تلك الطاولات في آخر القاعة على الزاوية، قريبة من بوابات تفضي لممر ينتهي بدورات المياه.

        كانت الطاولات دائرية وقد لحفت بشراشف بيضاء جميلة وأطرافها باللون الأحمر، كما غطت المقاعد المخملية بأغطية حمراء، كانت الساعة الكبيرة والجميلة المعلقة بالحائط تشير إلى اقتراب السابعة مساءا، كانت القاعة كسوق أو ملهى تختلط فيه الضحكات بالتعليقات وبالأحاديث الجانبية وبروائح العطور وبالرجال وبالنساء، اقتعد الثلاثة جنب بعض في إحدى الأمكنة الشاغرة لتلك الطاولات البعيدة بينما جلس جنبهم على نفس الطاولة ثلاث نساء وضعن أحمر شفاه صارخ وفاحت منهن روائح زكية نفاثة ورجلين آخرين أحدهما ذا شارب كث وآخر بدون لحية أو شارب غير إنهما يرتديان العمامات الملونة والدشاديش العمانية البيضاء.

         مرت الدقائق سريعا قبل أن تصمت القاعة فجأة، دخل مجموعة من الرجال يرتدي بعضهم الدشاديش البيضاء والخناجر والبشوت ويتوسطهم رجلٌ واحدٌ يرتدي بنطالا وقميصا أبيض بربطة عنق وفوقه جاكيت ذو زرقة حالكة، بدت التصفيقات القليلة كهمسات لتعلو بعدها موجة من التصفيق الحار، قال إبراهيم لأخيه حمدان الذي يتوسط بينه وبين إبن عمه سالم " لقد وصل الشاعر الكبير نزار قباني"، راقب الجميع ذلك الموكب من الرجال المحيطين بالشاعر وهم يفسحون له الطريق للجلوس في صدر القاعة أمام المسرح مباشرة حيث حيا الشاعر بيده ملوحا للحضور قبل ان يقعد وتخفت تلك الموجة من التصفيق الحاد.
       
        فوق المسرح نقر الجالس خلف الطاولة المزركشة والمزينة بباقات الورود وثلاث قناني ومشارب مياه ميكرفونا بحامل صغير، تك تك تك، كانت تلك التكات الثلاث كفيلة بصمت القاعة ومن عليها، سمع الجميع تنفس المكيفات ونفس الرجل الذي سوف يبدأ بالكلام من خلف طاولة تتوسط المسرح، ساد وجوم حاد، رحب الرجل بالحضور وقدم في دقائق سيرة الشاعر الكبير ضيف البلد وأهلها المشتاقين لأخوتهم أهل الشام وما حولها، كانت مقدمة ترحيبية جميلة ومؤثرة انتهت بموجة من التصفيق الحار مع دعوة المتحدث للشاعر بالصعود على المسرح لينثر عبق قصائده الفاتنة على الحضور وعلى ذلك المساء الجميل، صعد الشاعر للمسرح ولكنه لم يتوجه للطاولة التي خصص له بها خلف صدرها كرسيا أنيقا وكبيراً، بل توجه للمنصة الجانبية على اليمين قليلا ووقف خلفها، أُظلم المكان إلا من الضوء المسلط على الشاعر والمنصة التي يقف خلفها، طرق الشاعر الميكرفون، تك تك تك، عم صمت عميق في انتظار سماع صوت الشاعر الكبير، ردد بعدها الشاعر ثلاث مرات كلمة شكرا عالية النبرة وشكرا هادئة النبرة وشكرا خافتة النبرة ليعم الصمت المطبق المكان، صمت الشاعر أيضا لبرهة من الزمن ولم يسمع سوى فتحه وتقليبه لمجموعة من الأوراق كانت بيده، تابع بهدوء يكاد يكون وجلا، " اليوم، هذا الصباح، من شرفة المكان، قابلني هذا الممتد الأزرق الجميل"، 


خرج فجأة من زاوية ما من القاعة المظلمة صوت ما " هؤ هؤ هؤ"[1]، كانت القاعة مظلمة ولا يمكن تبيان الشخص الذي قال تلك الكلمات وقاطع الشاعر الكبير في بداية سيل تدفقه،  تيبس كلا من إبراهيم وسالم في مكانهما ولم يستطيعا أن يلتفتا على حمدان ذو الثلاثة عشرة عاما بينهما وقد احنى طاقيته التي يرتديها على رأسه لجهة اليمين، لقد عبر حمدان عن إعجابه بكلمات الشاعر بطريقته الخاصة والعفوية جدا، كانت السيدات الثلاث والرجلين الآخرين في حالة من الدهشة أيضا، بعد لحظات قرر الشاعر نزار قباني مواصلة تدفقه الشاعري لتلك الأمسية وأكمل "كانت العصافير تغرد، وكانت السماء زرقاء، وكان النسيم عليلا"، مرة أخرى أيضا علا صوت ما  من ذات المكان والزاوية والعتمة التي سبق ان خرج منها " هؤ هؤ هؤ "، صمت المكان مع إلتفاتة الشاعر الكبير لمكان قدوم الصوت وإنتظر برهة أخرى بينما كانت الأعين تنتظر منه شيئا ما، قال الشاعر الكبير نزار قباني بصوت يبدي استياءه من تلك المقاطعات المتعمدة " إني أسمع نهيق حمار"، ولكن قبل أن يغير من إتجاه نظرته لمكان الصوت أو يرمش كان هناك صوت ما واضحا وأكثر تحديا من تلك العتمة نفسها التي عند الزاوية " إن الحمير تعرف بعضها ".

        إلتفت رؤوس الحضور بالقاعة كلها باتجاه منبع الصوت، تلك الزاوية، فتحت إضاءة القاعة كلها، عم الهمس واللمز المكان، كانت العيون كلها تتجه باتجاه تلك الزاوية، لم يستطع إبراهيم وسالم ان يلتفتا أبدا لحمدان الذي جلس واثقا، فقط النساء اللاتي يجلسن بجانبه في نفس الطاولة من إلتفتن إليه، تلفت هو للطاولة التي تقع خلفه وكأنه يبحث عن منبع الصوت، نزل الشاعر من على المنصة، نزل أكثر، نزل من منصة المسرح يريد أن يخرج من القاعة، نهضت البشوت لاحتوائه وتهدئته، عم الهرج والمرج الأمسية، نهض حمدان، باغته سالم بأن قبض يده يريد ان يجلسه، كان يريد الحمام، خرج من مكانه ومن القاعة للرواق الذي تقع في أقصى طرفه الحمامات، تبعه سالم وإبراهيم بعدما شعرا إن كافة العيون تراقبهما، عندما خرج حمدان من الحمام هجما عليه واقتاده إلى السيارة، قفلا راجعين إلى القرية، علا صوت إبن عمه سالم وأخيه إبراهيم متوعدين ونادمين وموبخين له، كانت الساعة تشير الى ما بعد الثامنة، توسد حمدان يمينه في الكرسي الخلفي للسيارة ونام وهو يحلم بالمشاهد الجميلة التي مرت به في مسقط.


[1] " هؤ هؤ هؤ" عبارة محلية تحيل إلى الاعجاب المبالغ بشيء ما.

الأربعاء، 10 يوليو 2019

لم يكن أحمد العربي في حصن النعمان


سلطان العزري

        في نهاية تسعينيات القرن الماضي زار مارسيل خليفة المغني والموسيقي اللبناني مسقط ضمن دعوة رسمية وذلك لإحياء عدد من الامسيات الفنية، كنت طالبا بجامعة السلطان قابوس، كنت وأصدقائي نتشارك بالغناء الجماعي ونحن نستمتع لأغنية مارسيل خليفة من أشعار الشاعر الفلسطيني محمود درويش " منتصب القامة أمشي" ، بالنسبة لنا في تلك الفترة تمثل استضافة مارسيل خليفة المناضل الثوري والاشتراكي الأصيل علامة فارقة، وسواء أكان مارسيل اشتراكي أم راديكالي ام عروبي الا اننا صنفناه في خانة المقاومة لما تمثله اغانيه وقصائدها من معاني المقاومة والنضال والثورة ضد الاحتلال ولما يمثله الحضور الفلسطيني كبلد من هم ووجود وقضية، كنا مجموعة من الطلبة في نفس الجامعة نتابع كل ما يتعلق بفلسطين ونحلل ما يدور ونقرأ القصائد ونتعرف على المنظمات والفصائل الفلسطينية المختلفة ونرسم ونعلق ايقونات فلسطينية كناجي العلي وحنظلة والقدس والطاقية الفلسطينية وغسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم ومجلة الكرمل وجورج حبش وغيرها الكثير، كنا نعيش الوجود والشتات الفلسطيني كهاجس وقضية  مصير..



        بعد محاولات واتصالات كثيرة مع الأصدقاء والمعارف استطعنا أن ندبر سيارة صغيرة لكي تنقلنا الى مكان اقامة الأمسية، تزاحمنا ستة طلاب داخل سيارة بيضاء " تيرسل – تويوتا " صغيرة، لا يهم تلك اللحظة المخالفة المرورية التي سوف نحصل عليها ان لمحتنا سيارة الشرطة أو روائح العرق التي ازكمت انوفنا من بعض الاصحاب او اننا ساهمنا في دفع قيمة البنزين لتعبئة خزان تلك السيارة، المهم هو أن نشاهد ونسمع ونغني مع مارسيل الفنان حامل لواء النضال القومي. أن نغني أغنية أحمد العربي او شيء من أغنية ريتا.


        وصلنا قبل بداية الأمسية، أوقفنا السيارة بجانب حصن النعمان ببركاء، كانت تجربة حصن النعمان ببركاء لا تزال وليدة وجديدة، حصن تم بناءه في عهد قمة دولة اليعاربه وإمامها قيد الأرض سيف بن سلطان اليعربي، تلك الأسطورة الوجدانية التي استطاعت في عهدها عمان ان تنعم بالرخاء والرفاه والغنى المبني على القوة العسكرية والتجارية والعلمية، تلك من العهود القليلة في التاريخ العماني، الحصن ظل مكانه يشهد على تلك الفترة، ظل لسنوات طويلة كاستراحة لقوافل المسافرين وكحامي العابرين من اللصوص وسارقي الاحلام، ها هو اليوم يعود للأضواء ويستغل ويفعل ويسلط عليه الضوء في برنامج ثري، ها هو اليوم يستقبل الفنان مارسيل خليفه الملتزم بالقضية الفلسطينية، كانت تلك بعض حواراتنا الجدلية حول تقبل أو رفض الموضوع قبل أن نصل لذلك المكان وقبل ان تبدأ الأمسية.


         بدأت الأمسية الساعة السابعة مساء وانتهت الساعة الثامنة تقريبا، لم تكن أمسية طويلة، فقط ساعة قد تزيد قليلا، كان المسرح ممتلأ، لم نتمايل مع مقتطفات الأغاني التي غناها مارسيل، كانت الإضاءة المواكبة للأمسية هي أجمل الأشياء فيها، بدا مارسيل مستعجلا ويراقب الوقت، صرخ أحدنا " أحمد العربي" لم يوليه اهتمام ما، لم يغني شيئا من أحمد العربي ولا من اغنية ريتا، كانت مقاطع من أغنيات أخرى، صاحبها عزف العود، كان مستوى الرطوبة عاديا ومتحملا خاصة وان الأمسية كانت في فصل الشتاء، ما الذي يشغل بال الفنان والمناضل مارسيل خليفه عن جمهوره، لا بد أن امرا ما يزعجه أو أن هناك ما لا نعرفه، قدرنا ان الداعين له –المسؤولين – قد اعطوه تعليمات واشتراطات واضحة حول المقاطع والاغاني المسموح بها وتلك الغير مسموح بها.
         

               مع خروجنا من المسرح وجدت بمحض الصدفة صديق الدراسة الابتدائية والذي باشر العمل في وزارة السياحة تلك منذ مدة قصيرة لا تتعدا الأشهر الاولى، كنا نتكلم عن الأمسية، اخبرناه عن قصر الأمسية وإننا توقعنا انها ستمتد لساعات وربما على اقل تقدير ان تكون أطول من هذا الوقت الذي كان قصيرا جدا، اننا لم نستمتع حقا بهذه الأمسية، مسك صاحبي هذا يدي وجرني الى مكان منزو بعيدا عن اصحابي الجامعيين وهمس في اذني " تراه مارسيل معزوم من يطلع تو من هنا بيروح الأمسية الحقيقية في بيت الوزير ... بالقرم"، كانت تلك صدمة حقيقية، واو، المناضل، واو، سئلت صديقي هل يمكن لنا ان نحضر تلك الأمسية الخاصة؟ فرد مبتسما بخبث " انت وشطارتك" ثم توادعنا وانصرف.

        في طريق عودتنا كنا نتجادل حول ما حدث وكيف أن هذا لا يليق بمارسيل ايقونة النضال ومشعل الاحلام لدى جيل بأكمله، لا بد أنهم خدعوه وخدعونا، بالتأكيد انه ليس نخبويا ورأسماليا قذرا، إنه يغني لأحمد العربي، كيف يتفق ذلك مع اغنيته، قررنا أن نذهب لبيت الوزير في القرم ونشارك بالأمسية، حتى تطمئن قلوبنا ونسمع أغاني مارسيل الحقيقية، تلك الأغاني التي كونت له هذه القاعدة الشعبية، تلك الأغاني التي تحمل هما وجدانيا عربيا وتعبر عن قضيته المحورية فلسطين، قررنا كلنا أن نذهب ونرى ما سيحصل.


        كان بيت الوزير ذاك يقع في أرقى وأفضل الأماكن بالسلطنة من حيث الخدمات واطلالته المباشرة على شاطئ القرم بالإضافة الى اهم العوامل وهي انه يمثل الحي الراقي للبعثات الدبلوماسية بالبلد من سكن وعمل وبجانبه احسن وافخم الفنادق والمحلات العالمية و..ألخ، اخذنا أكثر من ساعة الى ان وصلنا الى مقصدنا، كانت الزحمة كبيرة في ذلك الشارع الذي يقع به بيت ذلك الوزير، السيارات الفارهة تتراقص من بداية الشارع، سيارات المرسيدس الفخمة ذات الأرقام الحكومية والخاصة، بسائقيها الخصوصيين، سيارات البي ام دبليوا الفخمة أيضا، الهمرات، الرنجات، البورشات  .. الخ، أنواع متنوعة، فخمة وضخمة، رويدا رويدا عبرت سيارتنا التيرسل الصغيرة والمتزاحمين داخلها بين تلك السيارات وخلفها وامام بعضها الى ان اقتربت من بيت الوزير، كان أمام بيت الوزير حراس بوكيله[1]، كان أيضا بجنب المدخل مجموعة من الشرطة، استوقفنا أحد الحراس

-       الى أين؟
-        نريد ان نحضر الأمسية مع مارسيل خليفة
-       هل معكم بطاقة دعوة؟
-       لا ما عندنا.
-       من أنتم؟
-       مجموعة طلبة من الجامعة.
-       لحظة.

ذهب الحارس وأسر لاحد الشرطة ولم يعود علينا بينما السيارات التي خلفنا تطلق مزاميرها العالية، جاء الشرطي وطلب منا تحريك السيارة على جانب الشارع قليلا ثم طلب رخصة القيادة وملكية السيارة ليعطينا مخالفة بسبب زيادة العدد والوقوف بالشارع، بعد دقائق من الترجي والحديث الودي والاخذ والعطاء مع الشرطي ارجع الينا البطاقات وامرنا بالانصراف فورا وكان من ضمن ما قاله " انتو اول شوفوا سيارتكم وبعدين فكروا تجو ترمسوا مع الهوامير[2]" .
      


          في طريق العودة، عم الصمت بيننا، اخرج صديقنا السائق الشريط الذي كنا نغني معه، شريط مارسيل خليفه، لوح به من النافذة، أخرج آخر سجائره ووزعها علينا، أشار الثالث لكافتيريا على الشارع تجهز سندويتشات لذيذة ورخيصة.


[1] حراس بو كيله: لقب يطلق على الحراس التقليدين الذين يلبشون الدشاديش والعمائم والمحازم واحيانا بيدهم البنادق التقليدية.
[2] الهوامير: جمع هامور وهو نوع من السمك الغالي جدا.

الاثنين، 1 يوليو 2019

الأحلام المعلقة لحمود سعود على جسر وادي عدي



"الواقع أكثر غرائبية من النص والحلم: قراصنة وادي عدي من المجموعة"

        أصدر القاص العماني حمود سعود هذا العام 2019م عن دار سؤال اللبنانية مجموعته القصصية الرابعة والتي حملت عنوانا مميزا كعادة مجموعات القاص الأخرى " أحلام معلقة على جسر وادي عدي" وبعدد صفحات يزيد عن 130 صفحة من الصفحات المتوسطة وبعدد كبير من القصص القصيرة يزيد عن الثمانية العشرين قصة.

        يؤصل القاص كتابته في هذه المجموعة القصصية بلغة مفعمة بالقدرة العجائبية على التصوير وعلى ربط العوالم المتخيلة بالعوالم الحية، لغة القاص لا تتشبث بفضاء الفكرة الواحدة وانما تدمج مجموعة فضاءات وشخوص وخيالات مع البيئة المحيطة من صحراء وجبال صلداء ومسارات موت وأحلام كثيرة معلقة وغيرها بلغة تكثيفية للصور الذهنية المبتكرة والنابضة بالحياة، يعمد القاص الى بعث الموتى ومخاطبتهم ورواية قصصهم التي يتخيلها ويجيد بشغف عجيب تلك الروح التي تعطي إشارات واضحة وتفسيرات لما مرت بها الحكايات ومآلتاها الحالية، وبشكل متطور لقارئ متتبع لنهج الكاتب يلاحظ التطور الناضج لأسلوب الكاتب في القصة عند المقارنة مع المجموعة الأولى " عمامة العسكر" والتي سحبت في هذا العام من معرض الكتاب الدولي بمسقط بعد أن حضرت للمعرض عدة سنوات، كما أن لغة القص لدى حمود سعود في المجموعة الثانية " المرأة العائدة من الغابة تعني" تنتهج ذات النهج والسبيل في القدرات والإمكانات التخيلية للغة ولبعث الموتى وقصصهم والقدرة على الالتقاطات الناضجة لمشاهد ربما تمر علينا يوميا ولا نستطيع ان نكثفها بنفس لغة والتفاتات القاص الفنية، ويستمر المسار وطريقة القص لدى القاص في " غراب البنك، ورائحة روي" تلك النصوص التي رأت النور مجموعة في 2017م، ربما لا أخفي سرا اذا قلت اني اتابع رحلة الكاتب منذ ان كان طالب في تخصص اللغة العربية بكلية التربية بصور حيث فاز بالعديد من جوائز مسابقات القصة في سنين دراسته الجامعية.

يلاحظ تأثير زكريا تامر السوري في بدايات كتابة حمود لقصة بصورة واضحة، تجاوز القاص تلك المرحلة وها هو اليوم يؤصل مشروعه الخاص لغة وقصة ونظرة للحياة، يعكس من خلال المجموعة ما يعترى نفسه التي هي نتاج مجتمع وثقافي ومحيط يموج بأمواج من الحياة التي قد تبدو جيدة وقد لا تبدو، في قصته " قراصنة وادي عدي " التي استل من بين تفاصليها عنوان المجموعة يتسأل السارد: هل تستطيع اللغة إعادة تشكيل مزاج المدن الضجرة؟ لكنه تذكر أن أهل المدينة يكرهون السؤال؟ يرتعبووووون منه.
       
          لندع السؤال يطير في سماوات المدن التي تحبه وترعاه، لا في سماوات المدن التي تنحره، وهو في مهد التكوين. في هذه القصة العجائبية فعلا يقول السارد " الواقع أكثر غرائبية من النص والحلم" وتراوح القصة في ادهاشها للقارئ بقدرتها السلسة على تداخل عدد من القصص والشخوص في مسار جنازة امرأة مصابة بالسرطان وتنتظر الموت وهي تغني لأطفالها الأربعة في لوحة على جدار المستشفى في الممر الأبيض الطويل وقصة السفن والقراصنة والموتى والمجانيين وحارس المقبرة الذي لا يحفل بكل ما يحدث وادوار الجنرالات وغيرها، القصة تحمل في رمزيتها الفائقة وعلاقتها بتلك المدينة التي تستقبل الناس بمقبرة الأموات/ الاحياء وتودعهم بمستشفى المجانيين/ الكتاب/ الادباء/ المثقفين/ الحالمين ...هناك الكثير، القراصنة المتربصون قبل جسر وادي عدي/ الحياة يوزهم السارد " القراصنة المتربصون في وادي عدي تجهزوا في سفنهم، اكتظت السفن بالغزاة والمشردين والشعارات والجنرالات والانجليز والفرس والبرتغاليين والهنود وأصحاب العمائم. لسنوات طويلة ظلوا يترقبون الأشياء، يضعون الفخاخ لأكاذيب التاريخ. تحت جسور وادي عدي خطوا شعاراتهم وتاريخهم. المياه مرت من تحت الجسر، ولكنهم لم يقلقوا" ويتابع السارد الغوص أحيانا في الحلم ويتقاطع معه ويخرج منه ليربط الحلم بالواقع في حديثه عن النص والكتابة والجنون والليل والقبو الذي يقبع السارد فيه ليعود ويجد ان " شبت الخلافات بين القراصنة، البرتغاليون والفرس أرادوا أن يتقاسموا البحر والتاريخ والميناء، الهنود ذهبوا الى مطرح وروي ليحتضنوا الأسواق ويمارسوا تجارتهم. أصحاب العمائم أعجبهم الكرسي والقلعة التي تطل على كل شيء، لكنهم لم يصمدوا، نزلوا من قلعتهم وضاعوا في المسافات. الإنجليز وحدهم من أمسكوا بحبال اللعبة، وزعوا الأدوار، وضعوا أيديهم في كبد البلاد وشربوا دمها. وقالوا: نحن هنا. الكل خاف وهرب، ظلوا وحدهم في القلعة يديرون المشهد."

        ان الحافلات الزرقاء التي لا تشبه البحر وهي تجمع المجانين بقوات مكافحة الشغب من تلك المدينة البائسة التي لا تعرف الا الضجر من ذاتها والمرأة الميتة/ زوجة السارد مع اطفالها الأربعة في غرفة نوم السارد هي خاتمة حزينة لقصص الحيوات التي مرت داخل القصة، تزيد من كثافة وسيمائية الحزن والالم والاحساس بالفقد، نهاية بائسة تزيد الضجر من حياة غير متقدة استطاع القاص بلسان السارد ان يجعلها حياة مفعمة بحلم كسر روتين ضجر هذه المدينة وبث فيها من روحه خيالات الحلم بالقدرة على التمرد والتظاهر والتعبير وحرية الاحتجاج.

        تتراوح القصص في المجموعة بين تلك الممتدة لعدة صفحات وتلك القصص ذات النصف صفحة، تعكس القصص القصيرة جدا لدى القاص القدرة على اقتناص الفكرة واللحظة والتوظيف ضمن سياق الحكاية، حيث تمتاز قصص " قراصنة وادي عدي"، " طائر الحكاية يأكل سمكة مسقط"، "حارس حكاية مسقط" ..الخ بانها قصص طويلة في حين ان القصص التي ظهرت بعد عنوان أشجار حديقة الطفولة هي قصص قصيرة جدا لا تتعدى صفحة واحيانا نصف صفحة - قصص مكثفة تراوغ القاري ليقراء ما لا يقال مباشرة، تتمازج بها روائح التاريخ والمكان والبيئة والتجربة للسارد وللمتلقى، البيئة حاضرة بقوة في مجموعة حمود سعود حيث تجد المكان حاظرا ومتمثلا بقوة مع التاريخ والشخوص التاريخية – القصص القصيرة تكاد أن تكون مجموعة مستقلة داخل هذه المجموعة حيث تبلغ ستة وعشرين نصا قصصيا قصيرا بامتياز، في اعتقادي كان بأمكان حمود أن يصدرها في مجموعة مستقلة خاصة وانه جمعها خلف عنوان أشجار حديقة الطفولة.

       استطاع القاص حمود سعود في مجموعته ان يوظف المتخيل والمكان والتاريخ والذاكرة وحتى الاحلام في مشاهد قصصه، حيث تتداخل داخل القصة الواحدة عدة قصص أخرى ومشاهد لا تبتعد كثيرا عن المنحى الرئيس للقصص نفسها، ويمكن للقارئ ان يستشف تلك القدرة على توظيف اللغة ولي عنقها بسهولة من عناوين قصص المجموعة ذاتها. مثالا لا حصرا " قراصنة وادي عدي"، طائر الحكاية يأكل سمكة مطرح"، " حارس حكاية مسقط"، "بريد الموتى"، " الاعمى الذي أبصر الحكاية "..ألخ، نجد ان القاص يتعمد الحكاية التي يستطيع من خلالها الرسم والحلم والتشبيه والاشتغال على القصة بصورة أكثر نضجا وتكثيفا وحلما برسائل يبعثها البحر أو المطر لصحراء الربع الخالي والمدن الضجرة من انطوائها وهامشيتها.