الأربعاء، 26 يونيو 2019

هويتنا في عالم متغير


          استضافت وزارة التعليم العالي في برنامج ثقافي طموح كما كتب معالي الدكتور محفوظ المنذري وزير التعليم العالي حينها في مقدمة الكتاب المنشور عام 2001م، الدكتور سعيد توفيق أستاذ فلسفة كلية آداب جامعة القاهرة والامين العام السابق للمجلس الاعلى للثقافة (2012-2014م)، وقد ألقى الدكتور سعيد توفيق عدد من المحاضرات المهمة والموزعة على النادي الثقافي بمسقط وكلية التربية بالرستاق وكلية التربية بصلالة سابقا وكلية الشريعة والقانون سابقا.
        
 بداية احب أن اشيد بذلك النهج القديم الذي كانت فيه المؤسسات الحكومية مثل وزارة التعليم العالي تستضيف فيه خبرات وعلماء وأساتذة الفكر والادب والتنوير وتمررهم على مختلف المناطق التي تشرف عليها وعلى تلك المؤسسات والأماكن التي تعنى بفتح الافاق والخطابات والمفاهيم أمام العامة والمختصين، لقد نحل هذا الجانب وضمرت حواشيه وكادت ان تجف سواقيه في المجتمع، لقد كانت مثل هذه المبادرات الجميلة تساهم في تحريك الراكد والاحساس بأن هناك مناخا من الانفتاح على الاخر القريب والأخر البعيد، الانفتاح على المشابه والمتماهي مع توجهنا وأحيانا ربما وعن طريق الخطأ هناك المغاير والمختلف.
الإشادة أيضا بأن تلك المحاضرات قد جمعت ونقحت وطبعت في كتيب بإشراف الوزارة، الإشادة بذلك مهمة لأنها ساهمت في ان استطيع بعد انقضاء اكثر من سبعة عشر عاما من تمرير ذلك الكتيب تحت يدي وان ابدأ في قراءته أمس وأن انتهي منه اليوم وذلك لطبيعة المواضيع التي اشعر بأنها ملحة وهامة وبسبب طبيعة الإشكاليات التي تعرض لها سعيد توفيق فيما يتعلق بأسئلة النهضة والتراث والاصالة وخارطة الطريق التي كان من الممكن تبنيها تلك الفترة للخروج من النفق الذي ربما لا يعترف به آخرون غيري أو لا يشعرون به أصلا، كانت أسئلة مهمة تدور ببالي كل يوم تقريبا، فالمتابع لاهم قضايا الفكر العربي المعاصر والحيز الذي شغلته في عصرنا الحديث يقف اليوم متأملا ومتألما لما وصلت إليه الحال من نكوص وتقاطع كلي مع الماضي وأخرى مع الحاضر، الشعور بالاغتراب أكثر وبفقدان الهوية والمعنى وضياع الفرص أمام الجمود والتخلف والفساد والمحسوبية وغيرها، اليوم هناك حاجة أشد حضورا لمراجعة أسلوب طرح هذه القضايا ووضع النقاط على الحروف، اليوم الحاجة أكبر وأشمل لنقاش إشكاليات التراث والمعاصرة والدين والقانون وماذا نريد وكيف ومفاهيم مثل المساواة والعدالة الاجتماعية والحريات وهوامشها والحقوق والواجبات ومنظمات المجتمع المدني وحضورها في حياتنا ودورنا في الحضارة والتحول من مجتمعات استهلاكية الى مجتمعات إنتاجية وشروط ذلك و..الخ

           الأسئلة مهمة وجوهرية وتتعلق بمدى صدق وعمق الأسئلة واجاباتها حول هذه النقاط والمفاصل المحورية السابقة في دراساتنا وفهمنا ووعينا ومدى المساحة الموجودة لوعيها وادراكها وطرحها وهل كان هناك خيار حقيقي أمام من سبقونا في تبني رؤية وفلسفة واضحة تساهم في بناء الانسان وتثقيفه وبأي أتجاه كانت؟ انها أسئلة المشاريع الفكرية للنهضة العربية واستحقاقاتها.

           ما أود الإشارة اليه أيضا ان محاضرات الدكتور سعيد توفيق أنها كانت تطرح وفي سياق أسئلة النهضة العربية، كانت تطرح الأسئلة التي لا تزال تؤرقنا وتقض مضاجعنا حول الهوية والحياة والثقافة والتراث والدين والفن وعلاقاتها والتيارات الفكرية العربية واسئلة النهضة، هذه الأسئلة ومنذ أكثر من 300 سنة ولا تزال فاعلة، الرهان على مسائلة تلك الأسئلة قائم وكذلك اجاباتها ومسارتها، الأهمية التي توليها تلك الأسئلة واجاباتها لا تزال تراوح مكانها واحيانا صارت عبئا حقيقيا بما تشكله من حضور فكري يؤثر في نظرتنا لذواتنا وحياتنا وتاريخنا وحاضرنا وماذا نريد من مستقبلنا؟ هذه الأسئلة واجاباتها تعطي ليس للدول فقط بعدا استراتيجيا وفكريا وانما للشعوب وللأفراد في تصميم طرق حياتهم ورؤاهم وتعاطيهم مع اليومي ومع أحلامهم ان وجدت.
ضم الكتيب في 106 صفحات خمس محاضرات القاها توفيق في عمان وكانت عناوين تلك المحاضرات الأربع تتاليا " معنى التراث والوعي التاريخي"، " إشكالية التراث والتحديث"، " تحديات العولمة"، " فلسفة البيئة ودورها في العملية التعليمية"، " الابداع الفني والوعي الجمالي". المحاضرة الأخيرة كانت بالمناسبة في كلية الشريعة والقانون وكانت ايامها تناقش موضوعا حساسا يتعلق بالهجمة الشرسة على رواية حيدر حيدر " وليمة لأعشاب البحر".

            استطاع الكتاب حقيقة ان يجيب على بعض الأسئلة التي لا تزال تراوح مكانها في داخلي، استطاع ان يعطيني فهما مختلفا قليلا حول الوضع وما آلت اليه الأوضاع، انه نوع من الاستنارة الجيدة في ظلمات الخفوت والتراجع الفكري، أهمية الكتاب هذا في المواضيع التي تطرق اليها وفي التوثيق الذي حصل لهذه المحاضرات الثرية، أتمنى ان تعاد تلك التجربة الثرية للمجتمع وان تكون هناك مساحات اكبر للحرية في مجالات الفنون والادب والموسيقى والصحافة ليكون التعبير الإبداعي والفني مواكبا للتغيرات التي لا ترحم في عصر اصبحنا فيه متلقين أكثر من كوننا مبدعين وخالقين لأدواتنا الخاصة بنا.