الخميس، 29 يوليو 2021

 

بشر حديديين مدعمين بالأسمنت والصلاة والمدن المهترئة

 

(صورة حديقة السنترال بارك بمدينة نيويورك)


        قبل عدة سنوات انتقلت للسكن في حي بعيد من احياء العاصمة مسقط، كانت الفراغات بين البيوت كثيرة وكانت المدينة تنمو وكل يوم ينبت بيت أو مجمع تجاري أو شارع منزو على الأرصفة بين تلك الفراغات، كان بذلك الحي مسجد واحد يبعد عن بيتي نصف كيلومترا واحدا، ومع تكاثر المنازل نبت مسجد آخر عند أول الشارع بعد الدوار والذي يبعد عن منزلي كيلو مترا واحد، كانت البيوت تنمو وتصطف وتتزاحم، المسجد الأخير لم يكتمل بعد وإذ بمسجد آخر ينبت على الجهة المقابلة له، يبدو من تصميمه الأولي أنه ضخم، وبعد التحري والسؤال اتضح إن المسجد الأخير أو القائمين عليه قد استحوذوا على أرض كانت مخصصة لتكون حديقة لذلك الحي، وذلك بعد موافقة الجهات الرسمية عليه، وبدعم سخي من أحد رجال الاعمال، وهذا ربما يريد أن يتوب وأن تغفر ذنوبه وأن يعمر الدنيا بشيء يسير من ماله ولا يعرف لصدقته أو زكاته تلك إلا ببناء المساجد.


        أوقفت سيارتي أمام البناء الجديد للمسجد الأخير، تأملته، المسجد الجديد الذي أستطاع القائمون عليه من الاستحواذ على حديقة الحي وجلبوا الدعم السخي له، كان مسجدا صغيرا مقارنة بإجمالي أرض الحديقة وقد لا يشكل ما نسبته 5% وقد تم تحويل باق الأرض إلى بنايات سكنية ومحلات تجارية ستكون كلها معروضة للإيجار عما قريب، أيضا لا أعتقد بأنه سيكون مسجدا مميزا ببناءه المعماري الفخم وهندسته المعتمدة على الاستدامة الخضراء للمكان واستغلال المساحات وسيكون قطعة من الجمال الفني والابداعي وانما سيكون مسجدا كغيره من المساجد الكثيرة المنتشرة جاهزة الرسومات من محلات الهندسة الاستشارية التي يمتلكها كومار والتي تبيع تصميم المتر بمئتين بيسة، هل أتطرق هنا إلى مقولة أن الدين أصبح سلعة تجارية ونفعي بهذا المعنى.



        وهكذا في حي واحد صغير أصبحت هناك ثلاثة مساجد، مسجد عن يميني ومسجد عن شمالي ومسجد أمام بيتي، وكلها لا تبعد عن الاخر كيلومترا واحدا، لقيت جاري الذي بدا مستاءا عند مباركتي له بقرب الجامع الجديد من بيته، ذكر أن والدته مريضة وتحتاج للراحة خاصة وأن نومها متقطع وصعب بسبب المرض ونوعية الادوية التي تأخذها، لقد كانوا يعانون عندما كانت مكبرات الصوت تصدح كل وقت صلاة بالآذان من مسجد واحد فقط واضطر إلى ان يبدل كافة نوافذ بيته بنوافذ مضادة للصوت، تسائل عن جدوى ذلك في ظل وجود مكبرات الصوت من ثلاثة مساجد ستصدح بالآذان في وقت واحد، قلت له " لا تنسى أن هناك خطبة صلاة الجمعة بالإضافة إلى المحاضرين الذين يأتون ليرشدوا الناس عبر الميكرفونات الخارجية إلى قرب صلاة العشاء، ستستمع إلى أشكال وألوان من الخطب الصماء" رد ضاحكا "فعلا إنها صماء لأنها تتكلم بلغة لا يفهمها من يكونون داخل المساجد، من يكون خارج المسجد فأنه يستمع أكثر لصدى مكبرات الصوت الذي عادة يكون مزعجا. تذكرت ساعتها رواية إبراهيم عبد المجيد " البلدة الأخرى" حينما يقول (فتحت الباب، فرأيت الصمت).



        وتلك اللحظة مر بالطريق جار آخر وقد لبس لباس الرياضة وبدأ في المشي السريع، فتوقف محييا، فاجأنا بقوله " كنت أتمنى أن يتم افتتاح مكتبة عامة بالحي لكي نقرأ أو أن يكون هناك ملعبا للتنس أو آخر لكرة الطائرة أو مزلجا لألعاب الأطفال، كنا وأطفالنا سنستمتع بالمكان، لن نضطر لان نذهب إلى حدائق بعيدة، سيجد الأطفال متنفسهم الطبيعي في حيهم لكي يلعبوا، لقد عشت في دولة غربية وكنت كلما أحببت أن أكسر الروتين اليومي أذهب بكرتي إلى ملعب الحي لكي ألعب كرة السلة، أنظر إني أذهب للمشي الآن ولكن هل سيكون ذلك - بعد قيام ثلاثة مساجد ومحلات تجارية بحينا – ممكنا؟ ان أمارس هوايتي المفضلة!".



      هل هذا الحي السكني صديق لساكنيه؟ ماذا يربطني بهذا الحي السكني ويشجعني على الاستمرار فيه، المساحات الخضراء أم تلك الكمية الممكنة من الأحاسيس بالراحة والفرح لطبيعة المكان؟ كانت درجة الحرارة بالليل وعند الثانية عشرة صباحا تصل أحيانا إلى 45 درجة مئوية، ينقطع الماء الحكومي أحيانا لفترة تزيد عن ثلاثة أيام، كثر في الآونة الأخيرة لصوص المنازل والسيارات، الا يكفي فسادا أن تتحول حديقة للحي لمشروع تجاري؟ هل هذا الحي صديقي؟ أو صديقا للحياة؟ انه يقضم كل لحظة مساحة ما من انسانيتي.




         ما هذه المدن التي لا تشعر إلا بها !!، مجموعة من الخرسانات الإسمنتية محاطة بمجموعة من المحلات التجارية والاستهلاكية بصورة نزقة، تغيب عنها الأشجار والمسطحات الخضراء إلا في أماكن محدودة، تختلط علبها الاسمنتية بصخورها العارية وبالحرارة المرتفعة، لماذا لا تؤنسن هذه المدن بشوارعها العارية، أن تكون مدنا محبة للحياة، في وطني هناك حرارة عالية على طول مدار العام، لماذا لا تبنى المسابح الأولمبية في كل مكان، بها اختصاصين وبأعلى أدوات السلامة والمهنية والمراقبة، ستجد الناس متنفسا بها، المدن والاحياء تحتاج لرئة لتتنفس بها، حدائق ومتنزهات وملاعب، في كل مدينة يجب أن يسعى القائمون عليها لانسنتها، فتح رئة هذه العلب الاسمنتية، علها تزهر وردة أو تنبت سدرة أو تحلق كلمة لتكون أغنية، ماذا يكون نتاج حديد وأسمنت وبشر؟ وحوش مثلا، بشرا حديديين مدعمين بالأسمنت والصلاة.


       لماذا بدلا من إطلاق مسابقة في النظافة المدرسية أو بين بلديات الولايات باسم السلطان لا تكون هناك مسابقة تجمع كل ذلك بأنسنة المدن واستمراريتها وقدرتها على خلق الإرث وتوليد الثقافة المعاصرة أو الحفاظ على الثقافة الشعبية القائمة من فنون وأهازيج من خلال خلق هذه المدن التي لا تأكل إنسانها وانما تصادقه وتمده بأسباب النجاح والتقدم والعطاء والمبادرة، مدن قادرة على احترام مواطنيها وسكانها.

الأربعاء، 28 يوليو 2021

ماذا سيقفز لنا مع الثورة الصناعية الرابعة..





 

            في عام 1998 قرأت مقالا عن تشكيل وإقرار علم اجتماع العالم الافتراضي بأحد الجامعات الكندية كأحدث ما توصل له علم الاجتماع المتعدد الفروع والاتجاهات في ذلك الزمن، فعلم الاجتماع - الذي يعنى بدراسة المجتمعات والجماعات البشرية وطرق وأليات وأهداف ونظريات نشوؤها وتكوينها وطبيعتها – يتفرع إلى تخصصات عدة منها: علم الاجتماع الحضري وعلم الاجتماع الريفي وعلم الاجتماع الصناعي والخدمة الاجتماعية ومناهج البحث الاجتماعي .. إلخ، لتصل عدد فروعه وتخصصاته الى أكثر من عشرين فرعا وعلما قائما، علوم إنسانية مهمة في أنسنة المجتمعات وتصفيتها من شرور الخرافات والاساطير وغيرها، ومنها يمكن أن يُطلق انسان متفاهم ومتصالح مع مجتمعه وواقعه، عودا على بدأ، في ذلك العام تحدث ذلك المقال عن طبيعة العالم الافتراضي وحدوده وماهيته وماذا يعني للأجيال والأمم والدول وكيف يمكنه ان يغير العالم، وما هي التغيرات الإيجابية والسلبية المتوقعة، كان مقالا استشرافيا لعوالم افتراضية أخرى قادمة ولإنسان جديد تمثله في ازماته ومحاوره وأدوات عصره، لإنسان ربما يعيش واقعا بعقلية قرون قديمة أو بعقلية قرون حديثة في عالم قديم أو بعقلية جديدة في عالم جديد.


            لنعد بالزمن قليلا للوراء عن عصرنا الحالي، وبإيجاز ربما مخل، لنستنطق رؤية عامة، وصولا لحاضرنا، شيئا من فلسفة التاريخ، لنبدأ بالأديان مثلا وبرؤية كونت الذي رأى في أن الانسان في الفترات التاريخية السحيقة إنه كائن ظل بحاجة لقوى خارجية تساعده على ردم هوة التساؤلات النابتة في رأسه حول ماهية الأشياء البسيطة وصولا إلى الكون العظيم، لذلك اخترع آلهته التي تقنعه بمساعدته في مواجهة الطبيعة العظيمة، في مواجهة مخاوفه، في تفسير الموت مثلا، في تفسير الزلازل والبراكين، في خلق إجابات ما حول اسئلته الوجودية، ليكافح الوحشة والحزن والموت، وتطور ذلك لاحقا إلى آلهة متعددين فمنهم من يعبد الشمس وآخرين يعبدون النار وفريق ثالث يعبد القمر ومنازله وهكذا كان للبشر أكثر من إله وأكثر من مصدر لتخفيف رعب الانسان من الطبيعة والاجابة على مخاوفه وتفسير وتنظيم شؤونه، ليتطور الموضوع من الاله الجماد أو البعيد إلى آلهة يتكلمون ويحاربون وينامون ثم مع تطور الالهة وعددهم ظهرت الأديان السماوية المعروفة كاليهودية والمسيحية والإسلام وصولا للآله الواحد، وعلى هذا الطرح فإنه ربما سيأتي زمن لا يحتاج الانسان فيه إلى إله او سيكون ربما بصورة مختلفة حسب الزمن الذي هو فيه.

     حسب هذه النظرية هناك تطور أو تغير لفكرة الآلهة وطبيعتهم والتي بالتأكيد تحمل الكثير من الاختزال لمفهوم الأديان ودورها، إلا ان الفكرة هنا ذات طرح تطوري او ولأكن أكثر دقة من طرح تغيري وتبدلي لأنه كما يبدو لا ثابت في هذا العالم، فالتغيير سنة الحياة، والانسان يولد طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم يموت في سيرورة طبيعية.

            ما ينطبق على الأديان في تلك المقدمة أعلاه قد ينطبق على تطور البشرية لما طرح أدناه، فالحضارات البشرية القديمة في الهند والصين وبلاد الرافدين ومصر واليونان وحوض البحر المتوسط والحضارة العربية الإسلامية وحضارة الاندلس وصولا للحضارة الاوربية ولبدايات النهضة الصناعية الأولى في القرن السابع عشر، مع بداية اكتشاف المنهج النقدي وفرانسيس بيكون وديكارت والثورة العلمية الأولى وما ترتب بسببها من طموحات شعوب في الحرية والمساواة وصولا للعدالة، وما انتجه الفكر البشري في تلك الأزمنة من حروب ومجاعة وغزو وتوسع وظهور تيارات فكرية مناوئة للكنيسة ودور الأخيرة بما تمثله من جانب روحي وديني لشعوب كثيرة في دحرجة الكرة وفي كيها، ظهور قوميات وانطماس أخرى، بدايات غياب إمبراطوريات وظهور أخرى، في غضون ما يقارب المائة والمئتين سنة كانت هناك الثورة الصناعية الثانية وما واكبها من إطار فلسلفي وفكري مختلف عن السائد والمعروف ونتاج طبيعي لما سبق من الثورة الصناعية الأولى وأسماء بارزة في عالم الفكر ككانط وهيجل وسبينوزا وماركس وغيرهم واختراع المحرك البخاري وتقدم العلوم الهندسية والميكانيكية وقدرة دول على غزو العالم ونشر ثقافتها ورؤيتها وغيره من التأثيرات والنتاجات التي لا نزال نتلمس تأثيراتها إلى اليوم بما افرزته من حربين عالميتين واستعمار واحتلال، ومن ثم كانت الثورة الصناعية الثالثة وما رافقها من انقسام عالمي بين معسكرين شرقي وغربي وحروب استقلال ومدارس فكرية جديدة كالوجودية والماركسية والبنيوية ومدرسة فرانكفورت والبنائية الوظيفية والسلوكية والحداثة واقتصاد المعرفة وحركة الشباب ومدارس علم النفس وحركات النضال ضد الكيانات المغتصبة والحروب بالوكالة .. إلخ.


            ومع بداية الألفية الجديدة تدفقت علينا الثورة الصناعية الرابعة بما حوته في جعبتها مما بعد الحداثة وعصر الانترنت والعالم الافتراضي وجائحة كورونا وتداخل العلوم والمعلومات الضخمة وانترنت الأشياء والمدن الذكية والذكاء الاصطناعي.. إلخ، وسبقتها وواكبتها رؤى نهاية التاريخ وعالم القرية الصغيرة والتنمية المستدامة والربيع العربي وطريق الحرير والصراع على سيادة العالم والقطب الواحد أو ذلك المتعدد.


            مما سبق تتجلى ملاحظات هامة منها إن بين كل عصر وآخر فترة زمنية أصبحت تتقلص وتتسارع بوتيرة لا يستطيع إلا من لديه البنية الصحيحة والحقيقية للحاقها والركب بها، يلاحظ أيضا إن العالم وتطوره لا يتوقف أو يستسلم فهو يمضي بوتيرة متسارعة ولا عزاء للمتخاذلين، منذ فترة ليست بالقصيرة قال محمد حسنين هيكل " ان العرب قد خرجوا من مسار التاريخ" وهي ان بدت مقولة حقيقية في ظاهرها إلا ان في تفصيلها ما يعارض ذلك الاطار العام، فعلى مستوى الاحداث اصبح العرب وقودا للتاريخ ومحطة للتجارب ولا تزال دولهم مسرحا للتغير والضغط والحروب، وبدلا من ان تكون شبه الجزيرة العربية هي العربية السعيدة كما في الخرائط القديمة أصبحت كما قال السياب في انشودته المشهورة "يا خليج يا واهب المحار، واللؤلؤ، والردى" فيرجع الصدى، ولا نتعلم، أو لا نريد أن نتعلم، فتنتشر الغوغائية وثقافة الكيس المملوء وثقافة المجتمع الاستهلاكي وارتدادات انتكاسية وغيرها من مسامير التخلف.


            فمثلا، عقدت ولأكثر من عشرين سنة ندوات ومحاضرات وطباعة كتب ومجلات ونشرات بالجملة ووضعت الخطط الحكومية وانتشر مفاهيم من مثل: الحكومة الالكترونية والأتمتة وتسهيل المعاملات واختصار الوقت والجهد والمال و.. من مصطلحات الحقيبة المملوءة، وعندما حطت جائحة كورونا بمعطفها الأسود المخيف على العالم تبين مدى هشاشة الوضع وضعفه ومدى عدم مصداقية تلك المؤتمرات والكتب والخطط، هناك عدة عوامل وأسباب ساعدت ليكون الوضع هكذا، وهناك عدة عوامل وأسباب عرقلت مسار الأمور، فمثلا تمكن السلطوية المقيتة فلا أحد يريد أن يقول لا إلى ما يعتقد به المسؤول أو أن ينتقد مسار معين جدلا أو حتى إشارة، فهناك حقيبة ضخمة (مندوس) مليء بالاتهامات والنكران والمقذوفات "اتهام في الوطنية أو بعلمانية أو الدستورية (المطالبة بالدستور) أو الاستغراب (التبعية للغرب)  وسيل آخر من المنغصات في الحياة اليومية والعمل والمستقبل، أقل ما يمكن فعله هو التهميش.


            عقد في نهاية ثمانينيات العقد الأخير من الألفية المنصرمة بالاتحاد السوفيتي سابقا مؤتمرا دوليا لمناقشة سياسة ومنهج الاتحاد السوفيتي، ضم المؤتمر بين جنباته نخبة كبيرة من القادة والعلماء والمنظرين والمهتمين والموالين وغيرهم، ولان الجميع كان يعلم المشكلة ولكن يخاف الصوت الرسمي للدولة وسطوته الجبارة ومرعوب من الطابور الخامس ومن شتاءات سيبيريا القارسة في أفضل الأحوال فإنه لم يكن من أحد يستطيع أو يريد أن يقول كلمة تجعل الأصابع تشير عليه من قريب أو من بعيد، وأتى المؤتمر وذهب وهو يناقش قضية هل الإتحاد السوفيتي يتوافق أكثر مع المنظومة الشرقية أم مع المنظومة الغربية؟ وكان الأولى مناقشة أهمية التغيير في أساليب الحكم والإدارة والاعتراف بالأخطاء المميتة ومنها الديكتاتورية وشمولية الحكم وغزو أفغانستان وو.. إلخ، الأكيد، إنه بعد عشر سنوات وفي بداية التسعينيات انهار الاتحاد السوفيتي انهيارا مدويا وتعددت مرة أخرى نظريات الانهيار والسقوط المدوي والتي قد تشير وقد تتوارى خلف أقنعة غير حقيقية في نظرياتها ومسلماتها لذلك الانهيار.


            منذ سنوات خلت بدئت مفاهيم التقنية والثورة الصناعية الرابعة والابتكار ومؤتمراتها وخططها وأحلامها في ان تكون المسار الجديد الذي سينتشلنا من أزماتنا لمستويات وحياة أفضل، وهذا حق مشروع في رسم حلم أو رؤية كما يطلق عليها، ولكن هل ستكون الثورة الصناعية الرابعة وانترنت الأشياء والطاقة النظيفة وانتاجاتها وابتكاراتها هي الواقع أم هي أشباهها، نوع من ذر الرماد بالعيون، مثلها مثل الحكومة الالكترونية قبل عشرين عاما مضت، سؤال يواكب تطلعاتنا وأهدافنا، وما هي وسائل الإفلات من الدائرة المميتة والخانقة والمفلسة للتغيير الذي يكون عادة من الأعلى ولا يحتمل الطرح المغاير أو المختلف، وإذا أتى التغير من الاسفل فهو تراجع أكبر وأكثر للوراء. 

الثلاثاء، 27 يوليو 2021

 

رواية سفينة نوح من بدايتها وحتى التختيم النهائي لا تهادن




سالم عبدالله الحميدي.
العامرات: ٢٥ يوليو ٢٠٢١م.


(سمحت لنفسي بنشر ما كتبه الصديق القاص والاديب سالم الحميدي

 في صفحته بالفيسبوك عن رواية سفينة نوح)


مع أول أيام المنع الكلى بدأت بقراءة هذه الرواية للصديق العزيز المبدع سلطان العزري.


رواية 《سفينة نوح》 تغوص في تفاصيل جائحة "جونو" التي عصفت بالسلطنة، وهي رواية سردها يحبس الأنفاس، ويستعين فيها الكاتب بالتوثيق عما صدر في الصحافة لما قبل وبعد خلال الجائحة، بالتوازي لسرد مكثف مستخدما تقريب الأحداث كزوم كاميرا، او من خلال البحث في الجواني الداخلي لشخصية البطل الراوي.

رواية سفينة نوح من بدايتها وحتى التختيم النهائي لا تهادن، ولا ترواغ بل تضع الأصبع فوق القضايا وتجرحها ليسيل لبان الشجرة سردا مجلجلا يتهم الفساد، والإعلام، والمسؤولين الصغار والكبار، وفئة البشر الجشعة والثرية التي تعيش على امتصاص جهد الفئات الكادحة يساعدها على ذلك ثغرات الفساد والمفسدين.

استمتعت حقا بقراءة هذه الرواية الماتعة، فما أن تبدأ بالحرف الأول تسترسل في متابعة شريطها الحكائي ساعدني في ذلك أن عشت تجربة الجائحة بنفسي ومن مصادفة الزمن المر أن يتقاطع وقت قراءتها مع المنع الكلي وهو شبيه إلى حد كبير مع العزل والانقطاع الذي عشناه وقت الجائحة في البلاد "الهبوبية"، وهو نفس العزلة والانقطاع والحيرة والتعب والغضب وعدم الوثوق الذي عاشه البطل وأسرته، وكأن لسان الحال يقول: ما بعد الجائحة لن يكون شبيها لما قبلها.


الاثنين، 12 يوليو 2021

 

"حيتان شريفة" .. مشهدية مفتوحة النهاية

 

بين يدي وفي طبعتها الأولى للعام 2018 رواية (حيتان شريفة) للكاتب والصحفي والروائي محمد بن سيف الرحبي وذلك عن بيت الغشام، وقد صدر سابقا للكاتب عدة أعمال كتابية أذكر منها (رحلة ابو زيد العماني) الحائزة على جائزة الشارقة للابداع العربي في مجال الرواية في عام 2002، وقد تابعت عمود الرحبي اليومي في صحيفة الشبيبة وكنت أغبط تلك القدرة على الاستمرار في الكتابة اليومية بما فيها من استنزاف للفكر واللغة والجديد، صدر لمحمد بن سيف الرحبي أيضا حسب ما مر بين يدي كتاب في القراءات النقدية لمجموعة من أعمال الإنتاج الادبي العماني كالقصة والرواية وغيرها، في هذا الكتاب هناك الكثير من الملاحظات التي قد تكون موضوعية ومنطقية.




 في البداية وقبل أن أبدأ في قراءة الرواية التي تعنون مقالي لم أتخيل أن شريفة هو أسم امرأة، ذهبت احتمالاتي إلى أنها صفة للحيتان والتي تعني في الثقافة الدراجة والشعبية نوع من الاستعارة اللفظية لوصف نوع ما من المتنفذين والمتغولين في قطاع ما من القطاعات التي قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو يمكن لها أن تكون نافذة في كافة القطاعات بلا استثناء، إن صفة الحيتان هي نوع من الارتباط المباشر للفساد وكبر الحجم والقدرة على جرف وسحق وإلتهام ما هو أصغر عنها، الإيضاح السابق مهم لفهم الإشارات التي ترسلها الرواية التي يفاجئك كاتبها من البداية بالتنويه إلى أن حديث وقائعها في كوكب المريخ وأن الراوي قد غير الأسماء والأماكن لكي تشبهنا.

الكاتب ينتمي بجذوره إلى ولاية سمائل وهي إحدى ولايات المنطقة الداخلية في عُمان والتي تضم إليها كلا من ولايات بهلأ ونزوى وازكي ومنح وأدم بالإضافة إلى ولاية الراوي وهي سمائل، أيضا هذا الإيضاح مهم لفهم سياقات الرواية التي أكتشف الراوي أن في المريخ واديا يجري على صخره الماء، يشبه وادي سمائل.

قبل هذا التنويه هناك جملتين ( حقوق الطبع ليست محفوظة .. حقوق " الحيتان" محفوظة .. جدا) مما سبق وقبل أن تغوص كقارئ هل يمكن أن تتخيل أن اسم شريفة هو اسم امرأة وليست صفة للحيتان.

سأحاول أن أوجز مسار الرواية المتشعب بسلالة كشراج وغيول الوادي الذي قامت عليه الحكاية والذي يتجمع ماءه ليصب في وادي عظيم يسمى وادي سمائل ليصل إلى بحر مسقط، عن امرأة مجهولة - تتكشف قصتها كلما تعمقنا في الرواية – تخرج من سجن لتهرب للوادي وتتزوج بعد سفاحها وتنجب حيتانا صغيرة في البداية من زوجها الحوت الكبير، تتعقد وتتشابك مصائرها مع المحيط الذي بنت فيه عريشها على ضفة الوادي لتكبر سلالتها ولكل منها حكايته التي توّلد حكايات أخرى ترتبط ببعضها، يستطيع الراوي أن يراوح بين كل شخصية وأخرى، أن يطرق بابا مجهولا، أن يرسم دربا غير منتهية، فضاءات قد تبدو عجائبية وقد لا تبدو كذلك، حسب المتلقي، لا يفلت محمد بن سيف الرحبي عصاه إلى آخرها مستسلما مع شخوصه التي نمت وتضخمت وأصبحت الحكاية التي تغطي على الحكاية الأصلية، الانتماء والطبقية والسياسية والقوة والفقر والحرب وغيرها، عناصر أساسية في الرواية ولكنها تبدو هكذا، يمكن أن تمسك بها ويمكن أن تكون سرابا، إنها تعبير شيق عن معضلة الكتابة، الأخيرة قد تكون خوفا من المجهول والقادم كنهاية الراوي التي بدت لوهلة نوع من الحلم ونوع من الحقيقة.

 الراوي أمامه عدة مستويات من الرقباء، ليس أول رقيب كتابة لديه هو الرقيب الذاتي بكل هواجسه ومخاوفه وتجاربه وحساباته ومغامرته التي بدت وكأنها غير محسوبة، ومستوى آخر هو الرقيب الرسمي المتمثل في أكثر من شخصية داخل نص الرواية، هناك معالي الوزير وهناك الغفير وهناك الصاحب الذي يعرف كل شيء ومستوى آخر من الرقابة وهو الرقابة العميقة المتمثلة في المجتمع والأسرة والثقافة، فأين وكيف تحرك الراوي بشخوصه وهل أستطاع أن يكون سلسا وغير ذو وجل في حلهم وترحالهم، هذا ما يستطيع القارئ أن يقوله عن الرواية وان يناقش فيه.

هناك أيضا البعد الاجتماعي الذي يطرحه الراوي في حراك شخوصه، الفصل والأصل والمنبت والهوية وبشكل واضح الطبقية المجتمعية، إنها أسئلة حاضرة في صميم المرحلة الحالية من السؤال العماني خصوصا والعربي عامة ومن يحاول أن يداري ذلك بمجموعة قوانين وتعينات وغيرها لا يكون موضوعيا بأن هذه الأسئلة لا تزال وقادة الجذوة في المحيط الاجتماعي، هل عمد الكاتب الى الإفصاح عنها مباشرة عبر قصص شخوصه وكيف ان عقد مثل النقص والدونية والتاريخ الجارح يمكن ان تكون عناصر انتقام وردات فعل عنيفة حين تتمكن شخوص الرواية من امتلاك عناصر القوة كما قال في احدى المقاطع " الفلوس تجيب الأصل".

من المثير للاهتمام نقد الراوي من خلال سير احداث الرواية لما يسمون جماعة المثقفين، لقد جلدهم وكأنه لا ينتمي لهم، خالطا بين الصحفي والكتاب ومن يستطيع الكتابة، وكأن الثقافة حصر عليهم، ان مصطلح من قبيل "تجار الشنطة" في وصف المثقفين المرتزقة قد أوره الأستاذ المغربي سعيد علوش في تسعينيات الالفية المنصرمة وأثار جدلا واسعا حين استعرض بالإشارة حينا بعض تلك الاعمال التي توظف معايير وتسميات جاهزة لكل من يقول يخرج قليلا أو كثيرا عن القطيع، الرواية توثق بصورة مدهشة لقصص تحدث تحت وفوق الطاولة، إنها ترصد بعين الخبير تلك اللعبة التي تتناوش الجميع في مجتمعات المريخ، هل القدرة على استغلال الأوراق والوظيفة والمنصب والمكانة هو نوع تجارة الشنطة، أم هو كما يقدمه اخرون بأن العلوم الانسانية الحديثة تعرفه كنوع من القدرة على بناء واستغلال العلاقات العامة والاعلام، انها إشارات واضحة لقدرة تلك الشخوص في الرواية على التلاعب من خلالها، للكسب أو للمكانة أو للسلطة، وهنا يطرح القارئ عدة أسئلة على نفسه من قبيل هل هذه مختصة بها مجتمعات المريخ أم هي في كل المجتمعات؟ وهل كل المجتمعات تمتلك حريتها لفضح تلك الممارسات؟ وهل هناك من يحميها لتبقى مصالحة فاعلة وقائمة؟

أحيي الراوي على طرحه الذي يمكن أن ينار أكثر من قبل القراء والكتاب بالرؤية والنقد والنقاش، الكتابة هي التي تمكننا من رسم طريق ما وفهم مساراته وتحليل واقعه، ذات مرة في المملكة المتحدة ناقشت فنانا إنكليزيا حول الفن والثقافة وأقنعني بمفوهمه للماهيته حين قال " إنكم تمتلكون بيئة خصبة من الحكايات والقصص، بإمكانكم أن تقاتلوا من أجل الكلمة التي تكتبونها، تؤرخون بها تاريخ اللحظة، لقد تجاوزنا نحن – الانجليز – تلك اللحظة"، هل صحيح أنهم تجاوزوها؟ لا أعلم ولكن "حيتان شريفة" هي من هذه النوعية التي تقدم رؤية قد تكون حقيقية وربما متخيلة لمكانها، إنها إحدى اللحظات التي استطاع الراوي أن ينير من خلالها عتمة إجابات لأسئلة ظلت معلقة ولا يمكن بثها أو سؤالها حتى، نوع من التابو، تعبير ما عن نوع آخر من مراحل الإنسانية في مسيرتها البائسة.

ترك الراوي شخوصه كما رسمها، لا الراوي داخلها حسم أمره وعرف نهايته، بل إنه أصبح يخلط الحقيقة بالوهم حين التقى شخوص روايته من الحيتان ومن يدعمهم أمامه، انهم المخلصون الذي يرفع القلم عنهم، الذين لا يشك في وطنيتهم، الأكثر شراهة من الحيتان الحقيقية، ترك لنا الراوي شخوصه بنهايات مفتوحة الاحتمالات، مفتوحة المصادر والقوة والحضور، امتداد لأصولهم التي لا تُعرف وقد نبتت فجأة على ضفاف الوادي.

في الأخير، عبرت الرواية عن مرحلة ما من عمر مكان ما، بشخوصها وما رسمه الراوي حولها، خالطها بعض الأخطاء الطباعية والاملائية وهذا أمر مفهوم ومعتاد ليس عند الكاتب وانما في اغلب الكتابات العربية حيث ان المراجعة اذ وجدت فليس بتلك المهنية او الجودة او العطاء المتوقع، بعض الصياغات التي تحتاج لإعادة، غير هذا فأنني لم اتطرق لأساليب رسم الشخصيات وللتفاصيل الدقيقة وتركت الباب مفتوحا للقارئ للبحث عن الرواية وقراءتها وربما الاستمتاع بها وبوقعها.

 

 


الخميس، 8 يوليو 2021

 

مقعد على ضفاف نهر السين


لن يكون بوسع علم متبجح في وحدته، وأدب وفنون دون بهجة، وسياسة كئيبة، ومجتمع راق دون ألق، وطبقة من النبلاء دون نباهة، وسادة دون تهذيب، وقادة عظام دون ألفاظ طنانة، أن يحلوا عما قريب، محل هذا المجتمع ..." 1879 ارسنت رونان[i]

 



 

          يعبر بنا الكاتب اللبناني الكبير أمين معلوف عبر كتابه " على ضفاف نهر السين" أربعة قرون من تاريخ فرنسا، موثقا وفاحصا وباحثا ومضيفا رؤية أخرى لفرنسا عموما ولكرسي الأكاديمية الفرنسية 29 في خصوصيته، تربع أمين معلوف على مقعدها في حزيران (يونيو) 2011 خلفا لسابقه الانثروبولوجي المعروف ليفي – ستروس الثامن عشر على مقعد الأكاديمية الفرنسية 29

 

          الكتاب إضافة حقيقية للمكتبة العربية وللقراء والسياسيين وعلماء الاجتماع واللغة، كيف ساهم كرسي الاكاديمية الفرنسية في توثيق وتأطير اللغة والثقافة الفرنسية، وكيف كانت بدايات هذا المقعد؟ وما هي أهدافه؟ وما هي المراحل التي أستطاع فيها أن يكون صوت فرنسا الملكية أو صوت فرنسا الجمهورية؟ وأهم من ذلك باعتقادي هو الصيرورة التي ساهم من خلالها في الحضور والثقافة الفرنسية بالأمس البعيد والقريب واليوم، إنه تاريخ من الأفكار والمداولات والتوثيق والصراعات الخفية وتلك العلنية، إنه جوهر العلاقات بين الأدباء والمفكرين والسياسيين، الكرسي الذي يصيغ ويرسم ويستضيف السياسات ويبني العلاقات وينصف الفكر والأدب، التاريخ هو كاتب حقيقي لك أمر حقيقي، منه تشعر بالفهم لمجريات ودهاليز ما يعتري الحياة الثقافية والسياسية للجمهورية الفرنسية، تأثره وتأثيره في ذاته وفي الآخرين، تفهم بداياته السرية وكيف وصل إلى أن أصبح اشادة ليس فرنسية فقط وإنما بالتأكيد عالمية.

 

          يدلل الكتاب على الجهد الموسوعي والمرجعي لصاحبه أمين معروف الذي لم ينس الشكر والتقدير لكافة من ساهم في توفير المادة والمكان والزمان لرحلة كتابة الكتاب، ويبدأ كتابه بجملة مثيرة " أبصر هذا الكتاب الصغير النور انطلاقا من شعور بالندم" ليوضح تاليا ماهية هذا الندم الذي يشير إليه، إنه ندم عدم قراءة كتب سلفه والغوص في حياته التي لا يعرفها حق المعرفة، لكن الفرصة أصبحت مواتيه، لذلك ومن جملة دوافع أخرى ها هو يخرج علينا بهذا الكتاب الجميل.

 

          وبداية من بيار باردان 1634 كأول من شغل مقعد الأكاديمية الفرنسية وليس انتهاء بكلود ليفي ستروس 2011 يطوف بنا أمين معروف في مراحل مختلفة وتجارب مختلفة امتدت لأكثر من أربعة قرون من تاريخ فرنسا الثقافي والأدبي والسياسي والفكري والعلمي، لكل "خالد"[ii] شغل كرسي الاكاديمية، بما أنتجه وما ساهم به، وما عارضه، وما دفعه قدما، وما اضافه او ابتكره في مجاله.

 

           تبرز أهمية الكتاب أنه يوثق الأهمية ليست العلمية وحدها لدور هذا الكرسي واسهاماته المباشرة أو غير المباشرة في الحياة والثقافة الفرنسية، قوة التأثير ودعم المشاريع الثقافية، دعم التنوير والأفكار الحرة والعلوم، دعم الجانب العلمي وتأكيد الهوية الفرنسية، المآزق السياسية والاجتماعية التي مر بها ومن خلالها، العلاقة بين الأدباء والمفكرين والسلطة، كيف ولماذا؟ كيف يمكن أن تكون السلطة محاربا عن المشاريع الثقافية وكيف يمكن أن تكون سيفا عليها، ما هو الدور الذي لعبه الكرسي.

 

الكتاب هو لعبة السياسية والآداب والفنون والعلوم والتقدم، إنه مراحل مختلفة من عمر الدولة الفرنسية، مع تفاصيل مهمة لفهم السياقات وربط العلاقات واضافة النواقص للوحة حتى يكتمل مشهد اللوحة، هل كان الكاتب محايدا أو متحيزا؟ هذا موضوع آخر، البين أنه كان واعيا لما كان يجري وأستطاع أن ينقل القارئ معه وهو يرسم كيف يمكن للملك في فترة ما من التاريخ الفرنسي أن يدعم أو يهمش عناصر مهمة أو تلك المتنافسة، كيف يمكن للعلاقات أن تؤثر وبقوة على القرار.

 


          تتمثل أيضا - هذا حسب فهمي ورؤيتي – أهمية مقعد الاكاديمية الفرنسية أو كما عنون به أمين معلوف كتابه ب " مقعد على نهر السين " بالبدايات، كيف تجمع عدد قليل، كيف تشاركوا الرؤية وقربوها، كيف شكلوا المقعد، كيف قدموه للآخرين، كيف كان البدايات سرية، فالبدايات مهمة جدا وهذا ما يثبته الكتاب.

 

          أيضا تتمثل أهمية الكتاب في أنه يعطي رؤية لدور المثقف الطليعي والوطني، الحاجة للحماية من سلطات أخرى لا يروق لها أن يكون هناك صوت خارج القطيع، أن يجد هذا الكاتب أو الباحث أو المبدع أو السياسي أو القائد مجموعة تساهم في رؤيته وفي دفعه للإبداع وفي تمهيد الطرق والمسارات له، في الوقوف بجانبه ودعمه.

 

            فمثلا ومن خلال الكتاب، نستطيع ان نفهم انه عندما ينتخب عالم الفيزيولوجيا بيير فلورنس عوضا عن فكتور هيجو الشهير ومن خلال جزء متأخر من كلمة الأول في حفل التنصيب حيث يقول " أن عالما جديدا يبصر النور وسيؤدي فيه العلم وذهنيته وطرائقه وتطبيقاته دورا حاسما. ولن يقتصر ذلك على ميادين المعرفة أو التعليم، ففي فرنسا، كما في انكلترة، وفي بلدان أخرى، سيؤدي انتشار الآلات إلى إقامة علاقات جديدة بين البشر، وظهور مذاهب سياسية وفلسفية جديدة، ستفي إلى تحول جذري في الوجود المادي والحياة الفكرية لسكانها أجمعين"[iii]، نفهم ما الذي يرسمه هذا القادم الجديد ويبشر به في مجتمعه، إنه رسول العالم الجديد، الأفكار الجديدة، التقدم، إنه في العام 1840 قال ذلك بينما لا نزال في مجتمعات ترى في هذا اليوم من العام 2021 تغييرا لمفاهيم الاجتماع والسياسية والحياة التي نتشابه معها.

 

          يستعرض الكتاب حياة وأفكار وتجارب الثمانية عشرة خالدا ممن شغلوا المقعد التاسع والعشرين في الأكاديمية الفرنسية، مع استعراض الحياة السياسية وتقلباتها من الملكية الي الجمهورية الى الملكية الى الجمهورية، الكرسي والحروب التي عاصرها، الحروب مع الجيران ومع العالم، الحياة الثقافية ودورها ومفاهيمها، يلقي الضوء على الخلاف حول مسرحية " السيد" وإلغاء مرسوم نانت، وثورة الفرندو والحركة الجنينية، وطرد اليسوعيين ونشأة الماسونية، والثورة الفرنسية عام 1789، وتمرد12 فنديميير وانقلاب 18 برميير، والامبراطورية الفرنسية الثانية، وحرب عام 1870، وكومونة باريس، واختراع التخدير والمآتم الوطنية، وقضية دريفوس، والحروب الكبرى في القرن العشرين ..[iv]

 

          إنه كتاب استمتعت بصحبته وبلغته العالية، استمتعت بالأفكار التي طرحتها شخوص وحيوات ممن شغل الكرسي ومعاصريهم والمراحل وتطوراتها، فشكرا أمين معلوف وشكرا للمترجمة نهلة بيضون وشكرا لدار الفارابي.



[i] مقتطف من الخطاب ص187

[ii] لقب شاغل كرسي الاكاديمية الفرنسية، في اعتقادي هو نوع من التكريم والتوثيق والاحتفاء بالإنجازات او الاسهامات أو تاريخ المرحلة لصاحبها.

[iii] ص 157

[iv] من غلاف الكتاب.