الخميس، 29 يوليو 2021

 

بشر حديديين مدعمين بالأسمنت والصلاة والمدن المهترئة

 

(صورة حديقة السنترال بارك بمدينة نيويورك)


        قبل عدة سنوات انتقلت للسكن في حي بعيد من احياء العاصمة مسقط، كانت الفراغات بين البيوت كثيرة وكانت المدينة تنمو وكل يوم ينبت بيت أو مجمع تجاري أو شارع منزو على الأرصفة بين تلك الفراغات، كان بذلك الحي مسجد واحد يبعد عن بيتي نصف كيلومترا واحدا، ومع تكاثر المنازل نبت مسجد آخر عند أول الشارع بعد الدوار والذي يبعد عن منزلي كيلو مترا واحد، كانت البيوت تنمو وتصطف وتتزاحم، المسجد الأخير لم يكتمل بعد وإذ بمسجد آخر ينبت على الجهة المقابلة له، يبدو من تصميمه الأولي أنه ضخم، وبعد التحري والسؤال اتضح إن المسجد الأخير أو القائمين عليه قد استحوذوا على أرض كانت مخصصة لتكون حديقة لذلك الحي، وذلك بعد موافقة الجهات الرسمية عليه، وبدعم سخي من أحد رجال الاعمال، وهذا ربما يريد أن يتوب وأن تغفر ذنوبه وأن يعمر الدنيا بشيء يسير من ماله ولا يعرف لصدقته أو زكاته تلك إلا ببناء المساجد.


        أوقفت سيارتي أمام البناء الجديد للمسجد الأخير، تأملته، المسجد الجديد الذي أستطاع القائمون عليه من الاستحواذ على حديقة الحي وجلبوا الدعم السخي له، كان مسجدا صغيرا مقارنة بإجمالي أرض الحديقة وقد لا يشكل ما نسبته 5% وقد تم تحويل باق الأرض إلى بنايات سكنية ومحلات تجارية ستكون كلها معروضة للإيجار عما قريب، أيضا لا أعتقد بأنه سيكون مسجدا مميزا ببناءه المعماري الفخم وهندسته المعتمدة على الاستدامة الخضراء للمكان واستغلال المساحات وسيكون قطعة من الجمال الفني والابداعي وانما سيكون مسجدا كغيره من المساجد الكثيرة المنتشرة جاهزة الرسومات من محلات الهندسة الاستشارية التي يمتلكها كومار والتي تبيع تصميم المتر بمئتين بيسة، هل أتطرق هنا إلى مقولة أن الدين أصبح سلعة تجارية ونفعي بهذا المعنى.



        وهكذا في حي واحد صغير أصبحت هناك ثلاثة مساجد، مسجد عن يميني ومسجد عن شمالي ومسجد أمام بيتي، وكلها لا تبعد عن الاخر كيلومترا واحدا، لقيت جاري الذي بدا مستاءا عند مباركتي له بقرب الجامع الجديد من بيته، ذكر أن والدته مريضة وتحتاج للراحة خاصة وأن نومها متقطع وصعب بسبب المرض ونوعية الادوية التي تأخذها، لقد كانوا يعانون عندما كانت مكبرات الصوت تصدح كل وقت صلاة بالآذان من مسجد واحد فقط واضطر إلى ان يبدل كافة نوافذ بيته بنوافذ مضادة للصوت، تسائل عن جدوى ذلك في ظل وجود مكبرات الصوت من ثلاثة مساجد ستصدح بالآذان في وقت واحد، قلت له " لا تنسى أن هناك خطبة صلاة الجمعة بالإضافة إلى المحاضرين الذين يأتون ليرشدوا الناس عبر الميكرفونات الخارجية إلى قرب صلاة العشاء، ستستمع إلى أشكال وألوان من الخطب الصماء" رد ضاحكا "فعلا إنها صماء لأنها تتكلم بلغة لا يفهمها من يكونون داخل المساجد، من يكون خارج المسجد فأنه يستمع أكثر لصدى مكبرات الصوت الذي عادة يكون مزعجا. تذكرت ساعتها رواية إبراهيم عبد المجيد " البلدة الأخرى" حينما يقول (فتحت الباب، فرأيت الصمت).



        وتلك اللحظة مر بالطريق جار آخر وقد لبس لباس الرياضة وبدأ في المشي السريع، فتوقف محييا، فاجأنا بقوله " كنت أتمنى أن يتم افتتاح مكتبة عامة بالحي لكي نقرأ أو أن يكون هناك ملعبا للتنس أو آخر لكرة الطائرة أو مزلجا لألعاب الأطفال، كنا وأطفالنا سنستمتع بالمكان، لن نضطر لان نذهب إلى حدائق بعيدة، سيجد الأطفال متنفسهم الطبيعي في حيهم لكي يلعبوا، لقد عشت في دولة غربية وكنت كلما أحببت أن أكسر الروتين اليومي أذهب بكرتي إلى ملعب الحي لكي ألعب كرة السلة، أنظر إني أذهب للمشي الآن ولكن هل سيكون ذلك - بعد قيام ثلاثة مساجد ومحلات تجارية بحينا – ممكنا؟ ان أمارس هوايتي المفضلة!".



      هل هذا الحي السكني صديق لساكنيه؟ ماذا يربطني بهذا الحي السكني ويشجعني على الاستمرار فيه، المساحات الخضراء أم تلك الكمية الممكنة من الأحاسيس بالراحة والفرح لطبيعة المكان؟ كانت درجة الحرارة بالليل وعند الثانية عشرة صباحا تصل أحيانا إلى 45 درجة مئوية، ينقطع الماء الحكومي أحيانا لفترة تزيد عن ثلاثة أيام، كثر في الآونة الأخيرة لصوص المنازل والسيارات، الا يكفي فسادا أن تتحول حديقة للحي لمشروع تجاري؟ هل هذا الحي صديقي؟ أو صديقا للحياة؟ انه يقضم كل لحظة مساحة ما من انسانيتي.




         ما هذه المدن التي لا تشعر إلا بها !!، مجموعة من الخرسانات الإسمنتية محاطة بمجموعة من المحلات التجارية والاستهلاكية بصورة نزقة، تغيب عنها الأشجار والمسطحات الخضراء إلا في أماكن محدودة، تختلط علبها الاسمنتية بصخورها العارية وبالحرارة المرتفعة، لماذا لا تؤنسن هذه المدن بشوارعها العارية، أن تكون مدنا محبة للحياة، في وطني هناك حرارة عالية على طول مدار العام، لماذا لا تبنى المسابح الأولمبية في كل مكان، بها اختصاصين وبأعلى أدوات السلامة والمهنية والمراقبة، ستجد الناس متنفسا بها، المدن والاحياء تحتاج لرئة لتتنفس بها، حدائق ومتنزهات وملاعب، في كل مدينة يجب أن يسعى القائمون عليها لانسنتها، فتح رئة هذه العلب الاسمنتية، علها تزهر وردة أو تنبت سدرة أو تحلق كلمة لتكون أغنية، ماذا يكون نتاج حديد وأسمنت وبشر؟ وحوش مثلا، بشرا حديديين مدعمين بالأسمنت والصلاة.


       لماذا بدلا من إطلاق مسابقة في النظافة المدرسية أو بين بلديات الولايات باسم السلطان لا تكون هناك مسابقة تجمع كل ذلك بأنسنة المدن واستمراريتها وقدرتها على خلق الإرث وتوليد الثقافة المعاصرة أو الحفاظ على الثقافة الشعبية القائمة من فنون وأهازيج من خلال خلق هذه المدن التي لا تأكل إنسانها وانما تصادقه وتمده بأسباب النجاح والتقدم والعطاء والمبادرة، مدن قادرة على احترام مواطنيها وسكانها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق