الخميس، 8 يوليو 2021

 

مقعد على ضفاف نهر السين


لن يكون بوسع علم متبجح في وحدته، وأدب وفنون دون بهجة، وسياسة كئيبة، ومجتمع راق دون ألق، وطبقة من النبلاء دون نباهة، وسادة دون تهذيب، وقادة عظام دون ألفاظ طنانة، أن يحلوا عما قريب، محل هذا المجتمع ..." 1879 ارسنت رونان[i]

 



 

          يعبر بنا الكاتب اللبناني الكبير أمين معلوف عبر كتابه " على ضفاف نهر السين" أربعة قرون من تاريخ فرنسا، موثقا وفاحصا وباحثا ومضيفا رؤية أخرى لفرنسا عموما ولكرسي الأكاديمية الفرنسية 29 في خصوصيته، تربع أمين معلوف على مقعدها في حزيران (يونيو) 2011 خلفا لسابقه الانثروبولوجي المعروف ليفي – ستروس الثامن عشر على مقعد الأكاديمية الفرنسية 29

 

          الكتاب إضافة حقيقية للمكتبة العربية وللقراء والسياسيين وعلماء الاجتماع واللغة، كيف ساهم كرسي الاكاديمية الفرنسية في توثيق وتأطير اللغة والثقافة الفرنسية، وكيف كانت بدايات هذا المقعد؟ وما هي أهدافه؟ وما هي المراحل التي أستطاع فيها أن يكون صوت فرنسا الملكية أو صوت فرنسا الجمهورية؟ وأهم من ذلك باعتقادي هو الصيرورة التي ساهم من خلالها في الحضور والثقافة الفرنسية بالأمس البعيد والقريب واليوم، إنه تاريخ من الأفكار والمداولات والتوثيق والصراعات الخفية وتلك العلنية، إنه جوهر العلاقات بين الأدباء والمفكرين والسياسيين، الكرسي الذي يصيغ ويرسم ويستضيف السياسات ويبني العلاقات وينصف الفكر والأدب، التاريخ هو كاتب حقيقي لك أمر حقيقي، منه تشعر بالفهم لمجريات ودهاليز ما يعتري الحياة الثقافية والسياسية للجمهورية الفرنسية، تأثره وتأثيره في ذاته وفي الآخرين، تفهم بداياته السرية وكيف وصل إلى أن أصبح اشادة ليس فرنسية فقط وإنما بالتأكيد عالمية.

 

          يدلل الكتاب على الجهد الموسوعي والمرجعي لصاحبه أمين معروف الذي لم ينس الشكر والتقدير لكافة من ساهم في توفير المادة والمكان والزمان لرحلة كتابة الكتاب، ويبدأ كتابه بجملة مثيرة " أبصر هذا الكتاب الصغير النور انطلاقا من شعور بالندم" ليوضح تاليا ماهية هذا الندم الذي يشير إليه، إنه ندم عدم قراءة كتب سلفه والغوص في حياته التي لا يعرفها حق المعرفة، لكن الفرصة أصبحت مواتيه، لذلك ومن جملة دوافع أخرى ها هو يخرج علينا بهذا الكتاب الجميل.

 

          وبداية من بيار باردان 1634 كأول من شغل مقعد الأكاديمية الفرنسية وليس انتهاء بكلود ليفي ستروس 2011 يطوف بنا أمين معروف في مراحل مختلفة وتجارب مختلفة امتدت لأكثر من أربعة قرون من تاريخ فرنسا الثقافي والأدبي والسياسي والفكري والعلمي، لكل "خالد"[ii] شغل كرسي الاكاديمية، بما أنتجه وما ساهم به، وما عارضه، وما دفعه قدما، وما اضافه او ابتكره في مجاله.

 

           تبرز أهمية الكتاب أنه يوثق الأهمية ليست العلمية وحدها لدور هذا الكرسي واسهاماته المباشرة أو غير المباشرة في الحياة والثقافة الفرنسية، قوة التأثير ودعم المشاريع الثقافية، دعم التنوير والأفكار الحرة والعلوم، دعم الجانب العلمي وتأكيد الهوية الفرنسية، المآزق السياسية والاجتماعية التي مر بها ومن خلالها، العلاقة بين الأدباء والمفكرين والسلطة، كيف ولماذا؟ كيف يمكن أن تكون السلطة محاربا عن المشاريع الثقافية وكيف يمكن أن تكون سيفا عليها، ما هو الدور الذي لعبه الكرسي.

 

الكتاب هو لعبة السياسية والآداب والفنون والعلوم والتقدم، إنه مراحل مختلفة من عمر الدولة الفرنسية، مع تفاصيل مهمة لفهم السياقات وربط العلاقات واضافة النواقص للوحة حتى يكتمل مشهد اللوحة، هل كان الكاتب محايدا أو متحيزا؟ هذا موضوع آخر، البين أنه كان واعيا لما كان يجري وأستطاع أن ينقل القارئ معه وهو يرسم كيف يمكن للملك في فترة ما من التاريخ الفرنسي أن يدعم أو يهمش عناصر مهمة أو تلك المتنافسة، كيف يمكن للعلاقات أن تؤثر وبقوة على القرار.

 


          تتمثل أيضا - هذا حسب فهمي ورؤيتي – أهمية مقعد الاكاديمية الفرنسية أو كما عنون به أمين معلوف كتابه ب " مقعد على نهر السين " بالبدايات، كيف تجمع عدد قليل، كيف تشاركوا الرؤية وقربوها، كيف شكلوا المقعد، كيف قدموه للآخرين، كيف كان البدايات سرية، فالبدايات مهمة جدا وهذا ما يثبته الكتاب.

 

          أيضا تتمثل أهمية الكتاب في أنه يعطي رؤية لدور المثقف الطليعي والوطني، الحاجة للحماية من سلطات أخرى لا يروق لها أن يكون هناك صوت خارج القطيع، أن يجد هذا الكاتب أو الباحث أو المبدع أو السياسي أو القائد مجموعة تساهم في رؤيته وفي دفعه للإبداع وفي تمهيد الطرق والمسارات له، في الوقوف بجانبه ودعمه.

 

            فمثلا ومن خلال الكتاب، نستطيع ان نفهم انه عندما ينتخب عالم الفيزيولوجيا بيير فلورنس عوضا عن فكتور هيجو الشهير ومن خلال جزء متأخر من كلمة الأول في حفل التنصيب حيث يقول " أن عالما جديدا يبصر النور وسيؤدي فيه العلم وذهنيته وطرائقه وتطبيقاته دورا حاسما. ولن يقتصر ذلك على ميادين المعرفة أو التعليم، ففي فرنسا، كما في انكلترة، وفي بلدان أخرى، سيؤدي انتشار الآلات إلى إقامة علاقات جديدة بين البشر، وظهور مذاهب سياسية وفلسفية جديدة، ستفي إلى تحول جذري في الوجود المادي والحياة الفكرية لسكانها أجمعين"[iii]، نفهم ما الذي يرسمه هذا القادم الجديد ويبشر به في مجتمعه، إنه رسول العالم الجديد، الأفكار الجديدة، التقدم، إنه في العام 1840 قال ذلك بينما لا نزال في مجتمعات ترى في هذا اليوم من العام 2021 تغييرا لمفاهيم الاجتماع والسياسية والحياة التي نتشابه معها.

 

          يستعرض الكتاب حياة وأفكار وتجارب الثمانية عشرة خالدا ممن شغلوا المقعد التاسع والعشرين في الأكاديمية الفرنسية، مع استعراض الحياة السياسية وتقلباتها من الملكية الي الجمهورية الى الملكية الى الجمهورية، الكرسي والحروب التي عاصرها، الحروب مع الجيران ومع العالم، الحياة الثقافية ودورها ومفاهيمها، يلقي الضوء على الخلاف حول مسرحية " السيد" وإلغاء مرسوم نانت، وثورة الفرندو والحركة الجنينية، وطرد اليسوعيين ونشأة الماسونية، والثورة الفرنسية عام 1789، وتمرد12 فنديميير وانقلاب 18 برميير، والامبراطورية الفرنسية الثانية، وحرب عام 1870، وكومونة باريس، واختراع التخدير والمآتم الوطنية، وقضية دريفوس، والحروب الكبرى في القرن العشرين ..[iv]

 

          إنه كتاب استمتعت بصحبته وبلغته العالية، استمتعت بالأفكار التي طرحتها شخوص وحيوات ممن شغل الكرسي ومعاصريهم والمراحل وتطوراتها، فشكرا أمين معلوف وشكرا للمترجمة نهلة بيضون وشكرا لدار الفارابي.



[i] مقتطف من الخطاب ص187

[ii] لقب شاغل كرسي الاكاديمية الفرنسية، في اعتقادي هو نوع من التكريم والتوثيق والاحتفاء بالإنجازات او الاسهامات أو تاريخ المرحلة لصاحبها.

[iii] ص 157

[iv] من غلاف الكتاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق