الاثنين، 12 يوليو 2021

 

"حيتان شريفة" .. مشهدية مفتوحة النهاية

 

بين يدي وفي طبعتها الأولى للعام 2018 رواية (حيتان شريفة) للكاتب والصحفي والروائي محمد بن سيف الرحبي وذلك عن بيت الغشام، وقد صدر سابقا للكاتب عدة أعمال كتابية أذكر منها (رحلة ابو زيد العماني) الحائزة على جائزة الشارقة للابداع العربي في مجال الرواية في عام 2002، وقد تابعت عمود الرحبي اليومي في صحيفة الشبيبة وكنت أغبط تلك القدرة على الاستمرار في الكتابة اليومية بما فيها من استنزاف للفكر واللغة والجديد، صدر لمحمد بن سيف الرحبي أيضا حسب ما مر بين يدي كتاب في القراءات النقدية لمجموعة من أعمال الإنتاج الادبي العماني كالقصة والرواية وغيرها، في هذا الكتاب هناك الكثير من الملاحظات التي قد تكون موضوعية ومنطقية.




 في البداية وقبل أن أبدأ في قراءة الرواية التي تعنون مقالي لم أتخيل أن شريفة هو أسم امرأة، ذهبت احتمالاتي إلى أنها صفة للحيتان والتي تعني في الثقافة الدراجة والشعبية نوع من الاستعارة اللفظية لوصف نوع ما من المتنفذين والمتغولين في قطاع ما من القطاعات التي قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو يمكن لها أن تكون نافذة في كافة القطاعات بلا استثناء، إن صفة الحيتان هي نوع من الارتباط المباشر للفساد وكبر الحجم والقدرة على جرف وسحق وإلتهام ما هو أصغر عنها، الإيضاح السابق مهم لفهم الإشارات التي ترسلها الرواية التي يفاجئك كاتبها من البداية بالتنويه إلى أن حديث وقائعها في كوكب المريخ وأن الراوي قد غير الأسماء والأماكن لكي تشبهنا.

الكاتب ينتمي بجذوره إلى ولاية سمائل وهي إحدى ولايات المنطقة الداخلية في عُمان والتي تضم إليها كلا من ولايات بهلأ ونزوى وازكي ومنح وأدم بالإضافة إلى ولاية الراوي وهي سمائل، أيضا هذا الإيضاح مهم لفهم سياقات الرواية التي أكتشف الراوي أن في المريخ واديا يجري على صخره الماء، يشبه وادي سمائل.

قبل هذا التنويه هناك جملتين ( حقوق الطبع ليست محفوظة .. حقوق " الحيتان" محفوظة .. جدا) مما سبق وقبل أن تغوص كقارئ هل يمكن أن تتخيل أن اسم شريفة هو اسم امرأة وليست صفة للحيتان.

سأحاول أن أوجز مسار الرواية المتشعب بسلالة كشراج وغيول الوادي الذي قامت عليه الحكاية والذي يتجمع ماءه ليصب في وادي عظيم يسمى وادي سمائل ليصل إلى بحر مسقط، عن امرأة مجهولة - تتكشف قصتها كلما تعمقنا في الرواية – تخرج من سجن لتهرب للوادي وتتزوج بعد سفاحها وتنجب حيتانا صغيرة في البداية من زوجها الحوت الكبير، تتعقد وتتشابك مصائرها مع المحيط الذي بنت فيه عريشها على ضفة الوادي لتكبر سلالتها ولكل منها حكايته التي توّلد حكايات أخرى ترتبط ببعضها، يستطيع الراوي أن يراوح بين كل شخصية وأخرى، أن يطرق بابا مجهولا، أن يرسم دربا غير منتهية، فضاءات قد تبدو عجائبية وقد لا تبدو كذلك، حسب المتلقي، لا يفلت محمد بن سيف الرحبي عصاه إلى آخرها مستسلما مع شخوصه التي نمت وتضخمت وأصبحت الحكاية التي تغطي على الحكاية الأصلية، الانتماء والطبقية والسياسية والقوة والفقر والحرب وغيرها، عناصر أساسية في الرواية ولكنها تبدو هكذا، يمكن أن تمسك بها ويمكن أن تكون سرابا، إنها تعبير شيق عن معضلة الكتابة، الأخيرة قد تكون خوفا من المجهول والقادم كنهاية الراوي التي بدت لوهلة نوع من الحلم ونوع من الحقيقة.

 الراوي أمامه عدة مستويات من الرقباء، ليس أول رقيب كتابة لديه هو الرقيب الذاتي بكل هواجسه ومخاوفه وتجاربه وحساباته ومغامرته التي بدت وكأنها غير محسوبة، ومستوى آخر هو الرقيب الرسمي المتمثل في أكثر من شخصية داخل نص الرواية، هناك معالي الوزير وهناك الغفير وهناك الصاحب الذي يعرف كل شيء ومستوى آخر من الرقابة وهو الرقابة العميقة المتمثلة في المجتمع والأسرة والثقافة، فأين وكيف تحرك الراوي بشخوصه وهل أستطاع أن يكون سلسا وغير ذو وجل في حلهم وترحالهم، هذا ما يستطيع القارئ أن يقوله عن الرواية وان يناقش فيه.

هناك أيضا البعد الاجتماعي الذي يطرحه الراوي في حراك شخوصه، الفصل والأصل والمنبت والهوية وبشكل واضح الطبقية المجتمعية، إنها أسئلة حاضرة في صميم المرحلة الحالية من السؤال العماني خصوصا والعربي عامة ومن يحاول أن يداري ذلك بمجموعة قوانين وتعينات وغيرها لا يكون موضوعيا بأن هذه الأسئلة لا تزال وقادة الجذوة في المحيط الاجتماعي، هل عمد الكاتب الى الإفصاح عنها مباشرة عبر قصص شخوصه وكيف ان عقد مثل النقص والدونية والتاريخ الجارح يمكن ان تكون عناصر انتقام وردات فعل عنيفة حين تتمكن شخوص الرواية من امتلاك عناصر القوة كما قال في احدى المقاطع " الفلوس تجيب الأصل".

من المثير للاهتمام نقد الراوي من خلال سير احداث الرواية لما يسمون جماعة المثقفين، لقد جلدهم وكأنه لا ينتمي لهم، خالطا بين الصحفي والكتاب ومن يستطيع الكتابة، وكأن الثقافة حصر عليهم، ان مصطلح من قبيل "تجار الشنطة" في وصف المثقفين المرتزقة قد أوره الأستاذ المغربي سعيد علوش في تسعينيات الالفية المنصرمة وأثار جدلا واسعا حين استعرض بالإشارة حينا بعض تلك الاعمال التي توظف معايير وتسميات جاهزة لكل من يقول يخرج قليلا أو كثيرا عن القطيع، الرواية توثق بصورة مدهشة لقصص تحدث تحت وفوق الطاولة، إنها ترصد بعين الخبير تلك اللعبة التي تتناوش الجميع في مجتمعات المريخ، هل القدرة على استغلال الأوراق والوظيفة والمنصب والمكانة هو نوع تجارة الشنطة، أم هو كما يقدمه اخرون بأن العلوم الانسانية الحديثة تعرفه كنوع من القدرة على بناء واستغلال العلاقات العامة والاعلام، انها إشارات واضحة لقدرة تلك الشخوص في الرواية على التلاعب من خلالها، للكسب أو للمكانة أو للسلطة، وهنا يطرح القارئ عدة أسئلة على نفسه من قبيل هل هذه مختصة بها مجتمعات المريخ أم هي في كل المجتمعات؟ وهل كل المجتمعات تمتلك حريتها لفضح تلك الممارسات؟ وهل هناك من يحميها لتبقى مصالحة فاعلة وقائمة؟

أحيي الراوي على طرحه الذي يمكن أن ينار أكثر من قبل القراء والكتاب بالرؤية والنقد والنقاش، الكتابة هي التي تمكننا من رسم طريق ما وفهم مساراته وتحليل واقعه، ذات مرة في المملكة المتحدة ناقشت فنانا إنكليزيا حول الفن والثقافة وأقنعني بمفوهمه للماهيته حين قال " إنكم تمتلكون بيئة خصبة من الحكايات والقصص، بإمكانكم أن تقاتلوا من أجل الكلمة التي تكتبونها، تؤرخون بها تاريخ اللحظة، لقد تجاوزنا نحن – الانجليز – تلك اللحظة"، هل صحيح أنهم تجاوزوها؟ لا أعلم ولكن "حيتان شريفة" هي من هذه النوعية التي تقدم رؤية قد تكون حقيقية وربما متخيلة لمكانها، إنها إحدى اللحظات التي استطاع الراوي أن ينير من خلالها عتمة إجابات لأسئلة ظلت معلقة ولا يمكن بثها أو سؤالها حتى، نوع من التابو، تعبير ما عن نوع آخر من مراحل الإنسانية في مسيرتها البائسة.

ترك الراوي شخوصه كما رسمها، لا الراوي داخلها حسم أمره وعرف نهايته، بل إنه أصبح يخلط الحقيقة بالوهم حين التقى شخوص روايته من الحيتان ومن يدعمهم أمامه، انهم المخلصون الذي يرفع القلم عنهم، الذين لا يشك في وطنيتهم، الأكثر شراهة من الحيتان الحقيقية، ترك لنا الراوي شخوصه بنهايات مفتوحة الاحتمالات، مفتوحة المصادر والقوة والحضور، امتداد لأصولهم التي لا تُعرف وقد نبتت فجأة على ضفاف الوادي.

في الأخير، عبرت الرواية عن مرحلة ما من عمر مكان ما، بشخوصها وما رسمه الراوي حولها، خالطها بعض الأخطاء الطباعية والاملائية وهذا أمر مفهوم ومعتاد ليس عند الكاتب وانما في اغلب الكتابات العربية حيث ان المراجعة اذ وجدت فليس بتلك المهنية او الجودة او العطاء المتوقع، بعض الصياغات التي تحتاج لإعادة، غير هذا فأنني لم اتطرق لأساليب رسم الشخصيات وللتفاصيل الدقيقة وتركت الباب مفتوحا للقارئ للبحث عن الرواية وقراءتها وربما الاستمتاع بها وبوقعها.

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق