الخميس، 16 فبراير 2017

الورطة الالكترونية..



سلطان العزري


منذ أكثر من عشر سنوات ماضية كانت هناك دول كثيرة تنشد ما يسمى باقتصاد المعرفة القائم على استخدام مختلف المجالات العلمية والتقنية الحديثة في تسهيل الإجراءات وحث الابتكارات والحفاظ على الهوية وعلى حقوق الملكية الفكرية للمستخدمين والمبدعين مدعما كل ذلك بأنظمة وقوانين تساهم تقنين وتأطير المسارات التي تستخدم فيها هذه التقنية. ومنذ سنوات طويلة أيضا خطت العديد من الدول في تلك الإجراءات وأصبحت اليوم من الدول التي يشار لها بالبنان في تقدم كافة المجالات.

الفضل لا ينسب فقط لتبني هذه الاستراتيجية وانما لعوامل عديدة أخرى، ولكن، يبقى وجود استراتيجية ورؤية واضحة ومحددة العامل الأساس في تحريك كافة الكتل للوصول لخليط يساهم في تشكيل الأوطان بروح وهوية مستمده منها وكذلك عصرية وحديثة، بينما بقت اوطان وبلدان في ركودها وتخلفها والاستمرار في خلق أسباب جمودها وتخلفها نهضت أمم وتقدمت أجيال أمم أخرى تستشرق المستقبل بينما تنظر للماضي للاستفادة من تجاربها ولتبني مستقبلها بإرادة تمتلك الرؤية والقرار.



على كبر حجم الموضوع أعلاه الا أنى سأضرب مثلا بسيطا باستخدامي لجهاز العمل لدي، فانا محتاج لتذكر اسم المستخدم والرقم السري لموقع الوزارة باعتباري موظفا فيها، محتاج لتذكر اسم المستخدم والرقم السري للجهاز الذي استخدمه في الوزارة، محتاج لتذكر اسم المستخدم والرقم او الرمز السري لبرنامج المخاطبات والرسائل بالوزارة، محتاج لتذكر اسم المستخدم والرقم السري لموقع الوزارة على اعتباري طالب من الطلبة المستفيدين من خدماتها، بالإضافة الى اسم المستخدم والرقم السري لنظام المورد التابع لوزارة الخدمة المدنية، هذا فضلا لتذكري اسم المستخدم والرقم السري لصفحتي في الفيسبوك وتوتير وصفحتي بالجامعة التي ادرس بها وبالبريد الالكتروني الشخصي وبريد آخر بالعمل ..ألخ.

بمعنى اخر ان ذاكرتي يجب ان تحتفظ بكل هذا الكم من المعلومات السرية لكي أستطيع استخدام خدمات الوزارة، فهناك تقريبا خمسة او أكثر صفحات استخدمها اثناء العمل وكل واحدة تتطلب اسما مختلفا ورقما سريا مختلفا، هذا يوضح كمية تعقيد المسئلة التي هي في الحقيقة سهلة ولا تحتاج لكل هذا التعقيد، أو الى كل هذا التراكم الفضفاض.

في المؤسسات التي لديها رؤية واضحة وتحسن من أداء خدماتها بمراجعتها والاخذ بالمرئيات والمقترحات حيث تجمع كل تلك الخدمات الخمس او الست تحت مفتاح واحد فقط بما يحافظ على سرية المعلومات وخصوصيتها وإمكانية استخدامها من اية جهاز اخر في الوزارة من الشخص نفسه، هذا امر من ابجديات التقانة الحديثة والمعلومة لدى المهتمين ولكن السؤال الذي يتبع ذلك هو ولماذا إذا لا تفعل مثل هذه الخدمة وتوفر، بتحليل بسيط تبدو خيارات مثل غياب الرؤية الواضحة او غياب اتخاذ القرار أو غيرها من الأسباب التي يمكن تعزى الي ذلك سببا فيما هو حاصل من عدم الربط الغير مبرر.

من جانب اخر لو اخذنا نظام البريد والارشفة بمقياس عدد العمليات التي يحتاجها المستخدم لانجاز معاملة واحدة به لوجدنا ان هناك أنظمة مخاطبات تحتاج الى عدد كبير من الإجراءات والخطوات لانجاح تلك المخاطبة بالإضافة الى خبرة متخصصة في حالات معينة، بينما نجد ان نظام المخاطبات في أنظمة برامجية أخرى كجوجل او هوتميل لا تحتاج الى كل ذلك النقر والطرق العجيبة لايصال او اخراج مخاطبة واحدة، حيث وجب على أنظمة الخطابات الحديثة ان تكون ميسرة وسهلة وقادرة على ان تكون ارشيفا ولكن يبدو ان أنظمة المخاطبات لدينا والتي ربما صرف عليها الكثير تحتاج للكثير أيضا من العمل وإعادة التفكير في اليات اسهل للاستخدام.

أيضا هناك جانب مهم في التقانة الحديثة فبقدر ما هي أداة لتسهيل العمل واختصار الوقت وكسب المرونة وتقليل الجهد، هي أيضا طريق ابراز العلامة الوطنية او التجارية ((Brand للمؤسسة وللمنتج وفي أحيانا كثيرة هي الصفة التي يمكن من خلالها قراءة المؤسسة ومعرفة نمطها، بنظرة بسيطة وفاحصة نجد اغلب مواقع الخدمات الحكومية تخلو من الصورة الإبداعية والتحفيزية، جامدة وحادة في اليتها وميكانيكيتها وسط عالم متغير ومتجدد، وهي تعكس بصورة او أخرى الثقافة النابعة منها، الثقافة التي تعتبر تقليدية وجامدة كحجارة وغير القابلة للتغير او التجديد وان بدا فهو شكلي فقط، أيضا تعكس واجهة الصفحة الرئيسة للمؤسسات النظام الطبقي او المسطح في أسلوب الإدارة من خلال اليات الخطابات وسهولتها وقنوات المرور فيها، بالطبع يرتبط تأثيث الصفحة بالغني المعرفي والالكتروني ولمقدار الفهم بالإضافة الى وعي وقدرة السلطة وأصحاب القرار الى تفهم التغيرات ودعمها او محاربتها وبترها وعمل تحقيقات وهمية حفاظا على الكراسي الكلاسيكية وهيبتها.




عندما توضع خططا لسعي نحو مجتمع تقاني فأن من اهم الأهداف لذلك هو كسب الوقت والجهد، تتعدد مسميات مثل الحكومة الالكترونية وعمان الرقمية و.. الخ، لكن يبقى تساؤل حول كيف يمكن فعلا لخدمات كهذه ان تساعد في تجويد المنتج وفي تقليل الوقت والجهد وفي تحقيق العدالة وفي كسب الاحترام والتفوق على الذات أولا وعلى الاخرين ثانيا بما يقدم لمسة فعلية وحقيقية للمستفيدين من المواطنين ومن الموظفين.


الأحد، 12 فبراير 2017

أغنية عنوانها الماء...

سلطان العزري

لمئات والالاف السنين، شكل الفلج عنصرا رئيسا في الحياة بالنسبة لاغلب المناطق الحضرية العمانية. تجلت القدرة الابداعية والهندسية بصورة رئيسة في عملية ايصال الماء لمسافات طويلة وسط الصحاري او الجبال او الوديان لتتشكل القرى والمدن والحضر وتتشكل معها انماط وقوانين وطقوس واديان وعادات وتقاليد لا يزال بعضا حيا ممارسا بينما اندثر الكثير منها في مناطق كثيرة.

لن اتحدث عن حصص وطريقة توزيع الماء البديعة ولن اتحدث عن الرؤية والخبرة في معرفة خطوط الماء الدقيقة في جوف الارض او عن طرقة شق الافلاج او عن معرفة تفاصيل الوقت ليلا بالنجوم او نهارا بالشمس. بل سأتحدث هنا عن وظيفة الفلج الرئسية وهي سقاية الناس والحيوانات والاشجار.


فمنذ الجاهلية وتاريخها وادبها كان الماء عاملا رئيسيا في تقرير مصير الحياة، جماعات تغزو اخرى بحثا من مرابع جديدة مليئة بالكلأ والمياه، قرى تبني وتسور محيطها بالبروج والقلاع حفاضا على ماؤها، تاريخ طويلا من الماء، ماء السماء وماء الارض وماء العيون، اشترك العمانيون في رسم نقاط خروج الماء بحيث تكون أول نقطة لخروج الماء من جوف الارض للبشر وبالضبط للسقاية، يعبون منها جحالهم وقربهم وصناديقهم ويرتون حتى تنضر عيونهم بالحياة، ثم تتعدد استخدامات فتحات الفلج حتى تصل الى اشجار النخيل. فهناك فتحات المساجد للوضوء والسباحة وهناك فتحات الفلج لسقاية الابل واخرى مخصصة للنساء ..الخ.




اقطن الان في العامرات وهي مدينة حديثة نسبيا مقارنة بالمدن والارياف العمانية العريقة، يوجد فلج في هذه المدينة – لا اتحدث هنا عن القرى او الاودية بالمدينة وانما عن فلج العامرات بالذات – هذا الفلج خصبا ويتدفق ماؤه خارج سواقيه غزارة واندفاعا حيث يقع مع بداية المدينة بعد الجبال الشاهقة او بوصف ادق عند عنق الودي المتجه الي البحر عبر الجبال. هذا الفلج الي يفترض به ان يكون مشربا ومروى للناس قبل الحيوانات والاشجار ادى دوره هذا في السنوات البعيدة الاولى، منذ سنوات طويلة أوقفت الحكومة الناس وحذرتهم من شرب ماؤه، تفاجئت من ذلك، الحقيقة أن منظر الماء وهو يتدفق على السواقي ويصب تحت اقدام النخيل مغر بقبضة ماء للجوف العطش، التحذير حقيقي، توجد بكتيريا ضارة به، من اين اتت لهذا النظام الفريد الي يطاول عمره ويزيد عن عمر الكثير من الدول الاخرى، كان الجواب صادما ايضا، ان تلك البيكتيريا تنتقل عبر المياه الجوفية ولقد كثرت مياه المجاري ومياه الصرف الصحي واختلطت بالمياه الجوفية التي بدورها اختلطت مياه الفلج.

الحزن مرحلة والموت مرحلة اخرى .. لكن الحياة ليست مرحلة فقط، أنها فلج متدفق. لذلك تتعلق القضية هنا بنقاء حياتنا. جهات كثيرة يجب ان يطرح عليها السؤال، ايضا يجب ان للافلاج الموجودة في القرى والارياف والمدن البعيدة والقريبة وتأثير كهذا التلوث على قلب تصالحنا مع ماء السماء وماء الارض وماء العيون... هل نحن قادرون على ان نعب كروشنا واروحنا بعلب مياه لا نعرف غير انها تتوافق والاشتراطات الصحية. وما هي هذه الاشتراطات الصحية وهل نمتلك جودة مراجعتها ومراقبتها حتى ساعة استخدامها، ماهي الاثار الحقيقية لخلط الماء والبلاستيك وتلك المواد داخل اجوافنا؟


ما ازعجني حقا ان أهل قريتي الوادعة والبعيدة ايضا اصبحوا لا يحبون ماء الفلج ويخافون من هذه البكتيريا، واصبح الفلج الذي رسخ الانسان تاريخا وبناءا وهندسة وتحضرا نوعا ما عدوا غير معلن، اصبح ماء السماء وماء الارض سببا في دوام تدفق ماء العيون وعدم توقفه.