الأحد، 12 فبراير 2017

أغنية عنوانها الماء...

سلطان العزري

لمئات والالاف السنين، شكل الفلج عنصرا رئيسا في الحياة بالنسبة لاغلب المناطق الحضرية العمانية. تجلت القدرة الابداعية والهندسية بصورة رئيسة في عملية ايصال الماء لمسافات طويلة وسط الصحاري او الجبال او الوديان لتتشكل القرى والمدن والحضر وتتشكل معها انماط وقوانين وطقوس واديان وعادات وتقاليد لا يزال بعضا حيا ممارسا بينما اندثر الكثير منها في مناطق كثيرة.

لن اتحدث عن حصص وطريقة توزيع الماء البديعة ولن اتحدث عن الرؤية والخبرة في معرفة خطوط الماء الدقيقة في جوف الارض او عن طرقة شق الافلاج او عن معرفة تفاصيل الوقت ليلا بالنجوم او نهارا بالشمس. بل سأتحدث هنا عن وظيفة الفلج الرئسية وهي سقاية الناس والحيوانات والاشجار.


فمنذ الجاهلية وتاريخها وادبها كان الماء عاملا رئيسيا في تقرير مصير الحياة، جماعات تغزو اخرى بحثا من مرابع جديدة مليئة بالكلأ والمياه، قرى تبني وتسور محيطها بالبروج والقلاع حفاضا على ماؤها، تاريخ طويلا من الماء، ماء السماء وماء الارض وماء العيون، اشترك العمانيون في رسم نقاط خروج الماء بحيث تكون أول نقطة لخروج الماء من جوف الارض للبشر وبالضبط للسقاية، يعبون منها جحالهم وقربهم وصناديقهم ويرتون حتى تنضر عيونهم بالحياة، ثم تتعدد استخدامات فتحات الفلج حتى تصل الى اشجار النخيل. فهناك فتحات المساجد للوضوء والسباحة وهناك فتحات الفلج لسقاية الابل واخرى مخصصة للنساء ..الخ.




اقطن الان في العامرات وهي مدينة حديثة نسبيا مقارنة بالمدن والارياف العمانية العريقة، يوجد فلج في هذه المدينة – لا اتحدث هنا عن القرى او الاودية بالمدينة وانما عن فلج العامرات بالذات – هذا الفلج خصبا ويتدفق ماؤه خارج سواقيه غزارة واندفاعا حيث يقع مع بداية المدينة بعد الجبال الشاهقة او بوصف ادق عند عنق الودي المتجه الي البحر عبر الجبال. هذا الفلج الي يفترض به ان يكون مشربا ومروى للناس قبل الحيوانات والاشجار ادى دوره هذا في السنوات البعيدة الاولى، منذ سنوات طويلة أوقفت الحكومة الناس وحذرتهم من شرب ماؤه، تفاجئت من ذلك، الحقيقة أن منظر الماء وهو يتدفق على السواقي ويصب تحت اقدام النخيل مغر بقبضة ماء للجوف العطش، التحذير حقيقي، توجد بكتيريا ضارة به، من اين اتت لهذا النظام الفريد الي يطاول عمره ويزيد عن عمر الكثير من الدول الاخرى، كان الجواب صادما ايضا، ان تلك البيكتيريا تنتقل عبر المياه الجوفية ولقد كثرت مياه المجاري ومياه الصرف الصحي واختلطت بالمياه الجوفية التي بدورها اختلطت مياه الفلج.

الحزن مرحلة والموت مرحلة اخرى .. لكن الحياة ليست مرحلة فقط، أنها فلج متدفق. لذلك تتعلق القضية هنا بنقاء حياتنا. جهات كثيرة يجب ان يطرح عليها السؤال، ايضا يجب ان للافلاج الموجودة في القرى والارياف والمدن البعيدة والقريبة وتأثير كهذا التلوث على قلب تصالحنا مع ماء السماء وماء الارض وماء العيون... هل نحن قادرون على ان نعب كروشنا واروحنا بعلب مياه لا نعرف غير انها تتوافق والاشتراطات الصحية. وما هي هذه الاشتراطات الصحية وهل نمتلك جودة مراجعتها ومراقبتها حتى ساعة استخدامها، ماهي الاثار الحقيقية لخلط الماء والبلاستيك وتلك المواد داخل اجوافنا؟


ما ازعجني حقا ان أهل قريتي الوادعة والبعيدة ايضا اصبحوا لا يحبون ماء الفلج ويخافون من هذه البكتيريا، واصبح الفلج الذي رسخ الانسان تاريخا وبناءا وهندسة وتحضرا نوعا ما عدوا غير معلن، اصبح ماء السماء وماء الارض سببا في دوام تدفق ماء العيون وعدم توقفه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق