الأربعاء، 28 يوليو 2021

ماذا سيقفز لنا مع الثورة الصناعية الرابعة..





 

            في عام 1998 قرأت مقالا عن تشكيل وإقرار علم اجتماع العالم الافتراضي بأحد الجامعات الكندية كأحدث ما توصل له علم الاجتماع المتعدد الفروع والاتجاهات في ذلك الزمن، فعلم الاجتماع - الذي يعنى بدراسة المجتمعات والجماعات البشرية وطرق وأليات وأهداف ونظريات نشوؤها وتكوينها وطبيعتها – يتفرع إلى تخصصات عدة منها: علم الاجتماع الحضري وعلم الاجتماع الريفي وعلم الاجتماع الصناعي والخدمة الاجتماعية ومناهج البحث الاجتماعي .. إلخ، لتصل عدد فروعه وتخصصاته الى أكثر من عشرين فرعا وعلما قائما، علوم إنسانية مهمة في أنسنة المجتمعات وتصفيتها من شرور الخرافات والاساطير وغيرها، ومنها يمكن أن يُطلق انسان متفاهم ومتصالح مع مجتمعه وواقعه، عودا على بدأ، في ذلك العام تحدث ذلك المقال عن طبيعة العالم الافتراضي وحدوده وماهيته وماذا يعني للأجيال والأمم والدول وكيف يمكنه ان يغير العالم، وما هي التغيرات الإيجابية والسلبية المتوقعة، كان مقالا استشرافيا لعوالم افتراضية أخرى قادمة ولإنسان جديد تمثله في ازماته ومحاوره وأدوات عصره، لإنسان ربما يعيش واقعا بعقلية قرون قديمة أو بعقلية قرون حديثة في عالم قديم أو بعقلية جديدة في عالم جديد.


            لنعد بالزمن قليلا للوراء عن عصرنا الحالي، وبإيجاز ربما مخل، لنستنطق رؤية عامة، وصولا لحاضرنا، شيئا من فلسفة التاريخ، لنبدأ بالأديان مثلا وبرؤية كونت الذي رأى في أن الانسان في الفترات التاريخية السحيقة إنه كائن ظل بحاجة لقوى خارجية تساعده على ردم هوة التساؤلات النابتة في رأسه حول ماهية الأشياء البسيطة وصولا إلى الكون العظيم، لذلك اخترع آلهته التي تقنعه بمساعدته في مواجهة الطبيعة العظيمة، في مواجهة مخاوفه، في تفسير الموت مثلا، في تفسير الزلازل والبراكين، في خلق إجابات ما حول اسئلته الوجودية، ليكافح الوحشة والحزن والموت، وتطور ذلك لاحقا إلى آلهة متعددين فمنهم من يعبد الشمس وآخرين يعبدون النار وفريق ثالث يعبد القمر ومنازله وهكذا كان للبشر أكثر من إله وأكثر من مصدر لتخفيف رعب الانسان من الطبيعة والاجابة على مخاوفه وتفسير وتنظيم شؤونه، ليتطور الموضوع من الاله الجماد أو البعيد إلى آلهة يتكلمون ويحاربون وينامون ثم مع تطور الالهة وعددهم ظهرت الأديان السماوية المعروفة كاليهودية والمسيحية والإسلام وصولا للآله الواحد، وعلى هذا الطرح فإنه ربما سيأتي زمن لا يحتاج الانسان فيه إلى إله او سيكون ربما بصورة مختلفة حسب الزمن الذي هو فيه.

     حسب هذه النظرية هناك تطور أو تغير لفكرة الآلهة وطبيعتهم والتي بالتأكيد تحمل الكثير من الاختزال لمفهوم الأديان ودورها، إلا ان الفكرة هنا ذات طرح تطوري او ولأكن أكثر دقة من طرح تغيري وتبدلي لأنه كما يبدو لا ثابت في هذا العالم، فالتغيير سنة الحياة، والانسان يولد طفلا ثم شابا ثم كهلا ثم يموت في سيرورة طبيعية.

            ما ينطبق على الأديان في تلك المقدمة أعلاه قد ينطبق على تطور البشرية لما طرح أدناه، فالحضارات البشرية القديمة في الهند والصين وبلاد الرافدين ومصر واليونان وحوض البحر المتوسط والحضارة العربية الإسلامية وحضارة الاندلس وصولا للحضارة الاوربية ولبدايات النهضة الصناعية الأولى في القرن السابع عشر، مع بداية اكتشاف المنهج النقدي وفرانسيس بيكون وديكارت والثورة العلمية الأولى وما ترتب بسببها من طموحات شعوب في الحرية والمساواة وصولا للعدالة، وما انتجه الفكر البشري في تلك الأزمنة من حروب ومجاعة وغزو وتوسع وظهور تيارات فكرية مناوئة للكنيسة ودور الأخيرة بما تمثله من جانب روحي وديني لشعوب كثيرة في دحرجة الكرة وفي كيها، ظهور قوميات وانطماس أخرى، بدايات غياب إمبراطوريات وظهور أخرى، في غضون ما يقارب المائة والمئتين سنة كانت هناك الثورة الصناعية الثانية وما واكبها من إطار فلسلفي وفكري مختلف عن السائد والمعروف ونتاج طبيعي لما سبق من الثورة الصناعية الأولى وأسماء بارزة في عالم الفكر ككانط وهيجل وسبينوزا وماركس وغيرهم واختراع المحرك البخاري وتقدم العلوم الهندسية والميكانيكية وقدرة دول على غزو العالم ونشر ثقافتها ورؤيتها وغيره من التأثيرات والنتاجات التي لا نزال نتلمس تأثيراتها إلى اليوم بما افرزته من حربين عالميتين واستعمار واحتلال، ومن ثم كانت الثورة الصناعية الثالثة وما رافقها من انقسام عالمي بين معسكرين شرقي وغربي وحروب استقلال ومدارس فكرية جديدة كالوجودية والماركسية والبنيوية ومدرسة فرانكفورت والبنائية الوظيفية والسلوكية والحداثة واقتصاد المعرفة وحركة الشباب ومدارس علم النفس وحركات النضال ضد الكيانات المغتصبة والحروب بالوكالة .. إلخ.


            ومع بداية الألفية الجديدة تدفقت علينا الثورة الصناعية الرابعة بما حوته في جعبتها مما بعد الحداثة وعصر الانترنت والعالم الافتراضي وجائحة كورونا وتداخل العلوم والمعلومات الضخمة وانترنت الأشياء والمدن الذكية والذكاء الاصطناعي.. إلخ، وسبقتها وواكبتها رؤى نهاية التاريخ وعالم القرية الصغيرة والتنمية المستدامة والربيع العربي وطريق الحرير والصراع على سيادة العالم والقطب الواحد أو ذلك المتعدد.


            مما سبق تتجلى ملاحظات هامة منها إن بين كل عصر وآخر فترة زمنية أصبحت تتقلص وتتسارع بوتيرة لا يستطيع إلا من لديه البنية الصحيحة والحقيقية للحاقها والركب بها، يلاحظ أيضا إن العالم وتطوره لا يتوقف أو يستسلم فهو يمضي بوتيرة متسارعة ولا عزاء للمتخاذلين، منذ فترة ليست بالقصيرة قال محمد حسنين هيكل " ان العرب قد خرجوا من مسار التاريخ" وهي ان بدت مقولة حقيقية في ظاهرها إلا ان في تفصيلها ما يعارض ذلك الاطار العام، فعلى مستوى الاحداث اصبح العرب وقودا للتاريخ ومحطة للتجارب ولا تزال دولهم مسرحا للتغير والضغط والحروب، وبدلا من ان تكون شبه الجزيرة العربية هي العربية السعيدة كما في الخرائط القديمة أصبحت كما قال السياب في انشودته المشهورة "يا خليج يا واهب المحار، واللؤلؤ، والردى" فيرجع الصدى، ولا نتعلم، أو لا نريد أن نتعلم، فتنتشر الغوغائية وثقافة الكيس المملوء وثقافة المجتمع الاستهلاكي وارتدادات انتكاسية وغيرها من مسامير التخلف.


            فمثلا، عقدت ولأكثر من عشرين سنة ندوات ومحاضرات وطباعة كتب ومجلات ونشرات بالجملة ووضعت الخطط الحكومية وانتشر مفاهيم من مثل: الحكومة الالكترونية والأتمتة وتسهيل المعاملات واختصار الوقت والجهد والمال و.. من مصطلحات الحقيبة المملوءة، وعندما حطت جائحة كورونا بمعطفها الأسود المخيف على العالم تبين مدى هشاشة الوضع وضعفه ومدى عدم مصداقية تلك المؤتمرات والكتب والخطط، هناك عدة عوامل وأسباب ساعدت ليكون الوضع هكذا، وهناك عدة عوامل وأسباب عرقلت مسار الأمور، فمثلا تمكن السلطوية المقيتة فلا أحد يريد أن يقول لا إلى ما يعتقد به المسؤول أو أن ينتقد مسار معين جدلا أو حتى إشارة، فهناك حقيبة ضخمة (مندوس) مليء بالاتهامات والنكران والمقذوفات "اتهام في الوطنية أو بعلمانية أو الدستورية (المطالبة بالدستور) أو الاستغراب (التبعية للغرب)  وسيل آخر من المنغصات في الحياة اليومية والعمل والمستقبل، أقل ما يمكن فعله هو التهميش.


            عقد في نهاية ثمانينيات العقد الأخير من الألفية المنصرمة بالاتحاد السوفيتي سابقا مؤتمرا دوليا لمناقشة سياسة ومنهج الاتحاد السوفيتي، ضم المؤتمر بين جنباته نخبة كبيرة من القادة والعلماء والمنظرين والمهتمين والموالين وغيرهم، ولان الجميع كان يعلم المشكلة ولكن يخاف الصوت الرسمي للدولة وسطوته الجبارة ومرعوب من الطابور الخامس ومن شتاءات سيبيريا القارسة في أفضل الأحوال فإنه لم يكن من أحد يستطيع أو يريد أن يقول كلمة تجعل الأصابع تشير عليه من قريب أو من بعيد، وأتى المؤتمر وذهب وهو يناقش قضية هل الإتحاد السوفيتي يتوافق أكثر مع المنظومة الشرقية أم مع المنظومة الغربية؟ وكان الأولى مناقشة أهمية التغيير في أساليب الحكم والإدارة والاعتراف بالأخطاء المميتة ومنها الديكتاتورية وشمولية الحكم وغزو أفغانستان وو.. إلخ، الأكيد، إنه بعد عشر سنوات وفي بداية التسعينيات انهار الاتحاد السوفيتي انهيارا مدويا وتعددت مرة أخرى نظريات الانهيار والسقوط المدوي والتي قد تشير وقد تتوارى خلف أقنعة غير حقيقية في نظرياتها ومسلماتها لذلك الانهيار.


            منذ سنوات خلت بدئت مفاهيم التقنية والثورة الصناعية الرابعة والابتكار ومؤتمراتها وخططها وأحلامها في ان تكون المسار الجديد الذي سينتشلنا من أزماتنا لمستويات وحياة أفضل، وهذا حق مشروع في رسم حلم أو رؤية كما يطلق عليها، ولكن هل ستكون الثورة الصناعية الرابعة وانترنت الأشياء والطاقة النظيفة وانتاجاتها وابتكاراتها هي الواقع أم هي أشباهها، نوع من ذر الرماد بالعيون، مثلها مثل الحكومة الالكترونية قبل عشرين عاما مضت، سؤال يواكب تطلعاتنا وأهدافنا، وما هي وسائل الإفلات من الدائرة المميتة والخانقة والمفلسة للتغيير الذي يكون عادة من الأعلى ولا يحتمل الطرح المغاير أو المختلف، وإذا أتى التغير من الاسفل فهو تراجع أكبر وأكثر للوراء. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق