الاثنين، 1 يوليو 2019

الأحلام المعلقة لحمود سعود على جسر وادي عدي



"الواقع أكثر غرائبية من النص والحلم: قراصنة وادي عدي من المجموعة"

        أصدر القاص العماني حمود سعود هذا العام 2019م عن دار سؤال اللبنانية مجموعته القصصية الرابعة والتي حملت عنوانا مميزا كعادة مجموعات القاص الأخرى " أحلام معلقة على جسر وادي عدي" وبعدد صفحات يزيد عن 130 صفحة من الصفحات المتوسطة وبعدد كبير من القصص القصيرة يزيد عن الثمانية العشرين قصة.

        يؤصل القاص كتابته في هذه المجموعة القصصية بلغة مفعمة بالقدرة العجائبية على التصوير وعلى ربط العوالم المتخيلة بالعوالم الحية، لغة القاص لا تتشبث بفضاء الفكرة الواحدة وانما تدمج مجموعة فضاءات وشخوص وخيالات مع البيئة المحيطة من صحراء وجبال صلداء ومسارات موت وأحلام كثيرة معلقة وغيرها بلغة تكثيفية للصور الذهنية المبتكرة والنابضة بالحياة، يعمد القاص الى بعث الموتى ومخاطبتهم ورواية قصصهم التي يتخيلها ويجيد بشغف عجيب تلك الروح التي تعطي إشارات واضحة وتفسيرات لما مرت بها الحكايات ومآلتاها الحالية، وبشكل متطور لقارئ متتبع لنهج الكاتب يلاحظ التطور الناضج لأسلوب الكاتب في القصة عند المقارنة مع المجموعة الأولى " عمامة العسكر" والتي سحبت في هذا العام من معرض الكتاب الدولي بمسقط بعد أن حضرت للمعرض عدة سنوات، كما أن لغة القص لدى حمود سعود في المجموعة الثانية " المرأة العائدة من الغابة تعني" تنتهج ذات النهج والسبيل في القدرات والإمكانات التخيلية للغة ولبعث الموتى وقصصهم والقدرة على الالتقاطات الناضجة لمشاهد ربما تمر علينا يوميا ولا نستطيع ان نكثفها بنفس لغة والتفاتات القاص الفنية، ويستمر المسار وطريقة القص لدى القاص في " غراب البنك، ورائحة روي" تلك النصوص التي رأت النور مجموعة في 2017م، ربما لا أخفي سرا اذا قلت اني اتابع رحلة الكاتب منذ ان كان طالب في تخصص اللغة العربية بكلية التربية بصور حيث فاز بالعديد من جوائز مسابقات القصة في سنين دراسته الجامعية.

يلاحظ تأثير زكريا تامر السوري في بدايات كتابة حمود لقصة بصورة واضحة، تجاوز القاص تلك المرحلة وها هو اليوم يؤصل مشروعه الخاص لغة وقصة ونظرة للحياة، يعكس من خلال المجموعة ما يعترى نفسه التي هي نتاج مجتمع وثقافي ومحيط يموج بأمواج من الحياة التي قد تبدو جيدة وقد لا تبدو، في قصته " قراصنة وادي عدي " التي استل من بين تفاصليها عنوان المجموعة يتسأل السارد: هل تستطيع اللغة إعادة تشكيل مزاج المدن الضجرة؟ لكنه تذكر أن أهل المدينة يكرهون السؤال؟ يرتعبووووون منه.
       
          لندع السؤال يطير في سماوات المدن التي تحبه وترعاه، لا في سماوات المدن التي تنحره، وهو في مهد التكوين. في هذه القصة العجائبية فعلا يقول السارد " الواقع أكثر غرائبية من النص والحلم" وتراوح القصة في ادهاشها للقارئ بقدرتها السلسة على تداخل عدد من القصص والشخوص في مسار جنازة امرأة مصابة بالسرطان وتنتظر الموت وهي تغني لأطفالها الأربعة في لوحة على جدار المستشفى في الممر الأبيض الطويل وقصة السفن والقراصنة والموتى والمجانيين وحارس المقبرة الذي لا يحفل بكل ما يحدث وادوار الجنرالات وغيرها، القصة تحمل في رمزيتها الفائقة وعلاقتها بتلك المدينة التي تستقبل الناس بمقبرة الأموات/ الاحياء وتودعهم بمستشفى المجانيين/ الكتاب/ الادباء/ المثقفين/ الحالمين ...هناك الكثير، القراصنة المتربصون قبل جسر وادي عدي/ الحياة يوزهم السارد " القراصنة المتربصون في وادي عدي تجهزوا في سفنهم، اكتظت السفن بالغزاة والمشردين والشعارات والجنرالات والانجليز والفرس والبرتغاليين والهنود وأصحاب العمائم. لسنوات طويلة ظلوا يترقبون الأشياء، يضعون الفخاخ لأكاذيب التاريخ. تحت جسور وادي عدي خطوا شعاراتهم وتاريخهم. المياه مرت من تحت الجسر، ولكنهم لم يقلقوا" ويتابع السارد الغوص أحيانا في الحلم ويتقاطع معه ويخرج منه ليربط الحلم بالواقع في حديثه عن النص والكتابة والجنون والليل والقبو الذي يقبع السارد فيه ليعود ويجد ان " شبت الخلافات بين القراصنة، البرتغاليون والفرس أرادوا أن يتقاسموا البحر والتاريخ والميناء، الهنود ذهبوا الى مطرح وروي ليحتضنوا الأسواق ويمارسوا تجارتهم. أصحاب العمائم أعجبهم الكرسي والقلعة التي تطل على كل شيء، لكنهم لم يصمدوا، نزلوا من قلعتهم وضاعوا في المسافات. الإنجليز وحدهم من أمسكوا بحبال اللعبة، وزعوا الأدوار، وضعوا أيديهم في كبد البلاد وشربوا دمها. وقالوا: نحن هنا. الكل خاف وهرب، ظلوا وحدهم في القلعة يديرون المشهد."

        ان الحافلات الزرقاء التي لا تشبه البحر وهي تجمع المجانين بقوات مكافحة الشغب من تلك المدينة البائسة التي لا تعرف الا الضجر من ذاتها والمرأة الميتة/ زوجة السارد مع اطفالها الأربعة في غرفة نوم السارد هي خاتمة حزينة لقصص الحيوات التي مرت داخل القصة، تزيد من كثافة وسيمائية الحزن والالم والاحساس بالفقد، نهاية بائسة تزيد الضجر من حياة غير متقدة استطاع القاص بلسان السارد ان يجعلها حياة مفعمة بحلم كسر روتين ضجر هذه المدينة وبث فيها من روحه خيالات الحلم بالقدرة على التمرد والتظاهر والتعبير وحرية الاحتجاج.

        تتراوح القصص في المجموعة بين تلك الممتدة لعدة صفحات وتلك القصص ذات النصف صفحة، تعكس القصص القصيرة جدا لدى القاص القدرة على اقتناص الفكرة واللحظة والتوظيف ضمن سياق الحكاية، حيث تمتاز قصص " قراصنة وادي عدي"، " طائر الحكاية يأكل سمكة مسقط"، "حارس حكاية مسقط" ..الخ بانها قصص طويلة في حين ان القصص التي ظهرت بعد عنوان أشجار حديقة الطفولة هي قصص قصيرة جدا لا تتعدى صفحة واحيانا نصف صفحة - قصص مكثفة تراوغ القاري ليقراء ما لا يقال مباشرة، تتمازج بها روائح التاريخ والمكان والبيئة والتجربة للسارد وللمتلقى، البيئة حاضرة بقوة في مجموعة حمود سعود حيث تجد المكان حاظرا ومتمثلا بقوة مع التاريخ والشخوص التاريخية – القصص القصيرة تكاد أن تكون مجموعة مستقلة داخل هذه المجموعة حيث تبلغ ستة وعشرين نصا قصصيا قصيرا بامتياز، في اعتقادي كان بأمكان حمود أن يصدرها في مجموعة مستقلة خاصة وانه جمعها خلف عنوان أشجار حديقة الطفولة.

       استطاع القاص حمود سعود في مجموعته ان يوظف المتخيل والمكان والتاريخ والذاكرة وحتى الاحلام في مشاهد قصصه، حيث تتداخل داخل القصة الواحدة عدة قصص أخرى ومشاهد لا تبتعد كثيرا عن المنحى الرئيس للقصص نفسها، ويمكن للقارئ ان يستشف تلك القدرة على توظيف اللغة ولي عنقها بسهولة من عناوين قصص المجموعة ذاتها. مثالا لا حصرا " قراصنة وادي عدي"، طائر الحكاية يأكل سمكة مطرح"، " حارس حكاية مسقط"، "بريد الموتى"، " الاعمى الذي أبصر الحكاية "..ألخ، نجد ان القاص يتعمد الحكاية التي يستطيع من خلالها الرسم والحلم والتشبيه والاشتغال على القصة بصورة أكثر نضجا وتكثيفا وحلما برسائل يبعثها البحر أو المطر لصحراء الربع الخالي والمدن الضجرة من انطوائها وهامشيتها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق