الأربعاء، 10 يوليو 2019

لم يكن أحمد العربي في حصن النعمان


سلطان العزري

        في نهاية تسعينيات القرن الماضي زار مارسيل خليفة المغني والموسيقي اللبناني مسقط ضمن دعوة رسمية وذلك لإحياء عدد من الامسيات الفنية، كنت طالبا بجامعة السلطان قابوس، كنت وأصدقائي نتشارك بالغناء الجماعي ونحن نستمتع لأغنية مارسيل خليفة من أشعار الشاعر الفلسطيني محمود درويش " منتصب القامة أمشي" ، بالنسبة لنا في تلك الفترة تمثل استضافة مارسيل خليفة المناضل الثوري والاشتراكي الأصيل علامة فارقة، وسواء أكان مارسيل اشتراكي أم راديكالي ام عروبي الا اننا صنفناه في خانة المقاومة لما تمثله اغانيه وقصائدها من معاني المقاومة والنضال والثورة ضد الاحتلال ولما يمثله الحضور الفلسطيني كبلد من هم ووجود وقضية، كنا مجموعة من الطلبة في نفس الجامعة نتابع كل ما يتعلق بفلسطين ونحلل ما يدور ونقرأ القصائد ونتعرف على المنظمات والفصائل الفلسطينية المختلفة ونرسم ونعلق ايقونات فلسطينية كناجي العلي وحنظلة والقدس والطاقية الفلسطينية وغسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم ومجلة الكرمل وجورج حبش وغيرها الكثير، كنا نعيش الوجود والشتات الفلسطيني كهاجس وقضية  مصير..



        بعد محاولات واتصالات كثيرة مع الأصدقاء والمعارف استطعنا أن ندبر سيارة صغيرة لكي تنقلنا الى مكان اقامة الأمسية، تزاحمنا ستة طلاب داخل سيارة بيضاء " تيرسل – تويوتا " صغيرة، لا يهم تلك اللحظة المخالفة المرورية التي سوف نحصل عليها ان لمحتنا سيارة الشرطة أو روائح العرق التي ازكمت انوفنا من بعض الاصحاب او اننا ساهمنا في دفع قيمة البنزين لتعبئة خزان تلك السيارة، المهم هو أن نشاهد ونسمع ونغني مع مارسيل الفنان حامل لواء النضال القومي. أن نغني أغنية أحمد العربي او شيء من أغنية ريتا.


        وصلنا قبل بداية الأمسية، أوقفنا السيارة بجانب حصن النعمان ببركاء، كانت تجربة حصن النعمان ببركاء لا تزال وليدة وجديدة، حصن تم بناءه في عهد قمة دولة اليعاربه وإمامها قيد الأرض سيف بن سلطان اليعربي، تلك الأسطورة الوجدانية التي استطاعت في عهدها عمان ان تنعم بالرخاء والرفاه والغنى المبني على القوة العسكرية والتجارية والعلمية، تلك من العهود القليلة في التاريخ العماني، الحصن ظل مكانه يشهد على تلك الفترة، ظل لسنوات طويلة كاستراحة لقوافل المسافرين وكحامي العابرين من اللصوص وسارقي الاحلام، ها هو اليوم يعود للأضواء ويستغل ويفعل ويسلط عليه الضوء في برنامج ثري، ها هو اليوم يستقبل الفنان مارسيل خليفه الملتزم بالقضية الفلسطينية، كانت تلك بعض حواراتنا الجدلية حول تقبل أو رفض الموضوع قبل أن نصل لذلك المكان وقبل ان تبدأ الأمسية.


         بدأت الأمسية الساعة السابعة مساء وانتهت الساعة الثامنة تقريبا، لم تكن أمسية طويلة، فقط ساعة قد تزيد قليلا، كان المسرح ممتلأ، لم نتمايل مع مقتطفات الأغاني التي غناها مارسيل، كانت الإضاءة المواكبة للأمسية هي أجمل الأشياء فيها، بدا مارسيل مستعجلا ويراقب الوقت، صرخ أحدنا " أحمد العربي" لم يوليه اهتمام ما، لم يغني شيئا من أحمد العربي ولا من اغنية ريتا، كانت مقاطع من أغنيات أخرى، صاحبها عزف العود، كان مستوى الرطوبة عاديا ومتحملا خاصة وان الأمسية كانت في فصل الشتاء، ما الذي يشغل بال الفنان والمناضل مارسيل خليفه عن جمهوره، لا بد أن امرا ما يزعجه أو أن هناك ما لا نعرفه، قدرنا ان الداعين له –المسؤولين – قد اعطوه تعليمات واشتراطات واضحة حول المقاطع والاغاني المسموح بها وتلك الغير مسموح بها.
         

               مع خروجنا من المسرح وجدت بمحض الصدفة صديق الدراسة الابتدائية والذي باشر العمل في وزارة السياحة تلك منذ مدة قصيرة لا تتعدا الأشهر الاولى، كنا نتكلم عن الأمسية، اخبرناه عن قصر الأمسية وإننا توقعنا انها ستمتد لساعات وربما على اقل تقدير ان تكون أطول من هذا الوقت الذي كان قصيرا جدا، اننا لم نستمتع حقا بهذه الأمسية، مسك صاحبي هذا يدي وجرني الى مكان منزو بعيدا عن اصحابي الجامعيين وهمس في اذني " تراه مارسيل معزوم من يطلع تو من هنا بيروح الأمسية الحقيقية في بيت الوزير ... بالقرم"، كانت تلك صدمة حقيقية، واو، المناضل، واو، سئلت صديقي هل يمكن لنا ان نحضر تلك الأمسية الخاصة؟ فرد مبتسما بخبث " انت وشطارتك" ثم توادعنا وانصرف.

        في طريق عودتنا كنا نتجادل حول ما حدث وكيف أن هذا لا يليق بمارسيل ايقونة النضال ومشعل الاحلام لدى جيل بأكمله، لا بد أنهم خدعوه وخدعونا، بالتأكيد انه ليس نخبويا ورأسماليا قذرا، إنه يغني لأحمد العربي، كيف يتفق ذلك مع اغنيته، قررنا أن نذهب لبيت الوزير في القرم ونشارك بالأمسية، حتى تطمئن قلوبنا ونسمع أغاني مارسيل الحقيقية، تلك الأغاني التي كونت له هذه القاعدة الشعبية، تلك الأغاني التي تحمل هما وجدانيا عربيا وتعبر عن قضيته المحورية فلسطين، قررنا كلنا أن نذهب ونرى ما سيحصل.


        كان بيت الوزير ذاك يقع في أرقى وأفضل الأماكن بالسلطنة من حيث الخدمات واطلالته المباشرة على شاطئ القرم بالإضافة الى اهم العوامل وهي انه يمثل الحي الراقي للبعثات الدبلوماسية بالبلد من سكن وعمل وبجانبه احسن وافخم الفنادق والمحلات العالمية و..ألخ، اخذنا أكثر من ساعة الى ان وصلنا الى مقصدنا، كانت الزحمة كبيرة في ذلك الشارع الذي يقع به بيت ذلك الوزير، السيارات الفارهة تتراقص من بداية الشارع، سيارات المرسيدس الفخمة ذات الأرقام الحكومية والخاصة، بسائقيها الخصوصيين، سيارات البي ام دبليوا الفخمة أيضا، الهمرات، الرنجات، البورشات  .. الخ، أنواع متنوعة، فخمة وضخمة، رويدا رويدا عبرت سيارتنا التيرسل الصغيرة والمتزاحمين داخلها بين تلك السيارات وخلفها وامام بعضها الى ان اقتربت من بيت الوزير، كان أمام بيت الوزير حراس بوكيله[1]، كان أيضا بجنب المدخل مجموعة من الشرطة، استوقفنا أحد الحراس

-       الى أين؟
-        نريد ان نحضر الأمسية مع مارسيل خليفة
-       هل معكم بطاقة دعوة؟
-       لا ما عندنا.
-       من أنتم؟
-       مجموعة طلبة من الجامعة.
-       لحظة.

ذهب الحارس وأسر لاحد الشرطة ولم يعود علينا بينما السيارات التي خلفنا تطلق مزاميرها العالية، جاء الشرطي وطلب منا تحريك السيارة على جانب الشارع قليلا ثم طلب رخصة القيادة وملكية السيارة ليعطينا مخالفة بسبب زيادة العدد والوقوف بالشارع، بعد دقائق من الترجي والحديث الودي والاخذ والعطاء مع الشرطي ارجع الينا البطاقات وامرنا بالانصراف فورا وكان من ضمن ما قاله " انتو اول شوفوا سيارتكم وبعدين فكروا تجو ترمسوا مع الهوامير[2]" .
      


          في طريق العودة، عم الصمت بيننا، اخرج صديقنا السائق الشريط الذي كنا نغني معه، شريط مارسيل خليفه، لوح به من النافذة، أخرج آخر سجائره ووزعها علينا، أشار الثالث لكافتيريا على الشارع تجهز سندويتشات لذيذة ورخيصة.


[1] حراس بو كيله: لقب يطلق على الحراس التقليدين الذين يلبشون الدشاديش والعمائم والمحازم واحيانا بيدهم البنادق التقليدية.
[2] الهوامير: جمع هامور وهو نوع من السمك الغالي جدا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق