الأحد، 14 يوليو 2019

عصافير تغرد من شرفة القصر




            ذات ظهيرة تفاجأ حمدان بجاهزية أخيه ابراهيم وابن عمه سالم للذهاب الى مسقط، كان ذلك في بدايات تسعينات القرن الماضي، فبادرهما بأنه يريد ان يذهب معهما ليشاهد مسقط العاصمة، رفضا قطعا تلك الفكرة، كانا مصرين على عدم اصطحابه، وعندما هما بالذهاب كان حمدان ينتظرهما عند باب سيارة سالم التي سوف تقلهما الى مسقط لحضور ومشاهدة ومتابعة الشاعر العربي الكبير نزار قباني، كان كلا من سالم وإبراهيم قد أنهيا منذ فترة قريبة دراستهما في كلية التربية بصور وأصبحا مدرسين محترمين في القرية التي يقطنان فيها، وكانا أيضا محبين للشعر وخاصة الشعر الغزلي وقد حفظا درزنا من قصائد نزار الغزلية، كانت فترة المراهقة تشعل جذوة الحياة فيهما، قدوم شاعر كبير كنزار ولأول مرة لمسقط في بداية تسعينيات القرن الماضي هو حدث يصعب تفويته على محبيه وحافظي أشعاره ومعتنقي أفكاره والحالمين بالجميلات اللاتي رسمهن نزار قباني في اشعاره.



      
        أصر حمدان الذي لم يتجاوز تلك الفترة الثالثة عشرة من عمره أن يرافقهما رغم أنه لا يعرف نزارا ولم يقرأ له أو يحفظ عنه ورغم أن مفهوم الغزل لم يحرك حواسه بعد، كانت زيارة مسقط العاصمة بالنسبة لحمدان في تلك الفترة شيئا عظيما يمكن ان يتحدث عنه لفترات طويلة أمام أصدقائه في المدرسة والملعب والحارة، سيحدثهم عن برج الصحوة وحديقة ريام وسوق مسقط، أمام إصرار حمدان على الذهاب الى مسقط أذعن إبراهيم وسالم لفكرة اصطحابه معهم، اشترطوا عليه وهم في الطريق الى مسقط بأن يكون مؤدبا وأن لا يحدث فوضى أو أية عمل آخر به صفة الجنون وغياب المنطق، كانا يعرفان أن حمدان هذا فوضوي ولا علاقة له بالشعر خاصة أو الأدب عامة.
      
        استمتع حمدان بأغاني أبو بكر سالم ولحديث أخيه وابن عمه بينما كانت السيارة تقرض الطريق الطويل ذي المسار الواحد، كانت الرحلة تستغرق من ثلاث الى أربع ساعات، كان صامتا يراقب القرى والصحاري والجبال والكهوف والأغنام والرعاة وما يمكن لعينيه ان تلتقطه من نافذة السيارة، توقفت السيارة ثلاث مرات قبل أن يصلوا مقصدهم، توقفت في المرة الأولى لكي تملأ بالبنزين وفي المرة الثانية للتبول وفي المرة الثالثة للصلاة، كانت رحلة مبهجة لحمدان الذي لم يشاهد مسقط كثيرا ويسمع عنها قصصا كثيرة.

        
          كانت الصحف والإذاعة والتلفزيون قد أفاضت في الحديث منذ أيام عن زيارة واستضافة الشاعر الكبير نزار قباني في مسقط، أنتشر الخبر كانتشار النار في الهشيم، كان الحضور المتوقع كبيرا، لقد حددت الأمسية في القاعة الكبيرة بفندق قصر البستان، الفندق الضخم الجديد والذي تستضيف فيه الحكومة الإجتماعات الرسمية وينزل فيه الضيوف الكبار والشخصيات المهمة والرسمية عند زيارتها للسلطنة.

        عندما وصلوا للفندق كانت هناك مجموعة من سيارات الشرطة لتنظيم المرور والمواقف ولمرافقة كبار الشخصيات، بعد عنت وجد إبراهيم مكانا لركن سيارته الجديدة والتي إشتراها بمناسبة توظيفه مدرسا للرياضيات في قريته، إنه من الناس القلة في القرية الذين يمتلكون سيارة جديدة، كانت الشمس قد بدأت تتوارى خلف الجبال بينما بقي اصفرار اشعتها التي تتحول تدريجيا الى حمرة قاتمة، بدا البحر جميلا بزرقته الشاحبة وقت الغروب، تعالت تغريدات العصافير الراجعة لأعشاشها، اندس الثلاثة في الزحمة المتكومة أمام باب المدخل للقاعة الكبيرة في الفندق، عندما استطاعوا العبور والدخول للقاعة كانت طاولات قليلة وبعيدة قد تبقت ولم تشغر بالكامل بعد، كانت تلك الطاولات في آخر القاعة على الزاوية، قريبة من بوابات تفضي لممر ينتهي بدورات المياه.

        كانت الطاولات دائرية وقد لحفت بشراشف بيضاء جميلة وأطرافها باللون الأحمر، كما غطت المقاعد المخملية بأغطية حمراء، كانت الساعة الكبيرة والجميلة المعلقة بالحائط تشير إلى اقتراب السابعة مساءا، كانت القاعة كسوق أو ملهى تختلط فيه الضحكات بالتعليقات وبالأحاديث الجانبية وبروائح العطور وبالرجال وبالنساء، اقتعد الثلاثة جنب بعض في إحدى الأمكنة الشاغرة لتلك الطاولات البعيدة بينما جلس جنبهم على نفس الطاولة ثلاث نساء وضعن أحمر شفاه صارخ وفاحت منهن روائح زكية نفاثة ورجلين آخرين أحدهما ذا شارب كث وآخر بدون لحية أو شارب غير إنهما يرتديان العمامات الملونة والدشاديش العمانية البيضاء.

         مرت الدقائق سريعا قبل أن تصمت القاعة فجأة، دخل مجموعة من الرجال يرتدي بعضهم الدشاديش البيضاء والخناجر والبشوت ويتوسطهم رجلٌ واحدٌ يرتدي بنطالا وقميصا أبيض بربطة عنق وفوقه جاكيت ذو زرقة حالكة، بدت التصفيقات القليلة كهمسات لتعلو بعدها موجة من التصفيق الحار، قال إبراهيم لأخيه حمدان الذي يتوسط بينه وبين إبن عمه سالم " لقد وصل الشاعر الكبير نزار قباني"، راقب الجميع ذلك الموكب من الرجال المحيطين بالشاعر وهم يفسحون له الطريق للجلوس في صدر القاعة أمام المسرح مباشرة حيث حيا الشاعر بيده ملوحا للحضور قبل ان يقعد وتخفت تلك الموجة من التصفيق الحاد.
       
        فوق المسرح نقر الجالس خلف الطاولة المزركشة والمزينة بباقات الورود وثلاث قناني ومشارب مياه ميكرفونا بحامل صغير، تك تك تك، كانت تلك التكات الثلاث كفيلة بصمت القاعة ومن عليها، سمع الجميع تنفس المكيفات ونفس الرجل الذي سوف يبدأ بالكلام من خلف طاولة تتوسط المسرح، ساد وجوم حاد، رحب الرجل بالحضور وقدم في دقائق سيرة الشاعر الكبير ضيف البلد وأهلها المشتاقين لأخوتهم أهل الشام وما حولها، كانت مقدمة ترحيبية جميلة ومؤثرة انتهت بموجة من التصفيق الحار مع دعوة المتحدث للشاعر بالصعود على المسرح لينثر عبق قصائده الفاتنة على الحضور وعلى ذلك المساء الجميل، صعد الشاعر للمسرح ولكنه لم يتوجه للطاولة التي خصص له بها خلف صدرها كرسيا أنيقا وكبيراً، بل توجه للمنصة الجانبية على اليمين قليلا ووقف خلفها، أُظلم المكان إلا من الضوء المسلط على الشاعر والمنصة التي يقف خلفها، طرق الشاعر الميكرفون، تك تك تك، عم صمت عميق في انتظار سماع صوت الشاعر الكبير، ردد بعدها الشاعر ثلاث مرات كلمة شكرا عالية النبرة وشكرا هادئة النبرة وشكرا خافتة النبرة ليعم الصمت المطبق المكان، صمت الشاعر أيضا لبرهة من الزمن ولم يسمع سوى فتحه وتقليبه لمجموعة من الأوراق كانت بيده، تابع بهدوء يكاد يكون وجلا، " اليوم، هذا الصباح، من شرفة المكان، قابلني هذا الممتد الأزرق الجميل"، 


خرج فجأة من زاوية ما من القاعة المظلمة صوت ما " هؤ هؤ هؤ"[1]، كانت القاعة مظلمة ولا يمكن تبيان الشخص الذي قال تلك الكلمات وقاطع الشاعر الكبير في بداية سيل تدفقه،  تيبس كلا من إبراهيم وسالم في مكانهما ولم يستطيعا أن يلتفتا على حمدان ذو الثلاثة عشرة عاما بينهما وقد احنى طاقيته التي يرتديها على رأسه لجهة اليمين، لقد عبر حمدان عن إعجابه بكلمات الشاعر بطريقته الخاصة والعفوية جدا، كانت السيدات الثلاث والرجلين الآخرين في حالة من الدهشة أيضا، بعد لحظات قرر الشاعر نزار قباني مواصلة تدفقه الشاعري لتلك الأمسية وأكمل "كانت العصافير تغرد، وكانت السماء زرقاء، وكان النسيم عليلا"، مرة أخرى أيضا علا صوت ما  من ذات المكان والزاوية والعتمة التي سبق ان خرج منها " هؤ هؤ هؤ "، صمت المكان مع إلتفاتة الشاعر الكبير لمكان قدوم الصوت وإنتظر برهة أخرى بينما كانت الأعين تنتظر منه شيئا ما، قال الشاعر الكبير نزار قباني بصوت يبدي استياءه من تلك المقاطعات المتعمدة " إني أسمع نهيق حمار"، ولكن قبل أن يغير من إتجاه نظرته لمكان الصوت أو يرمش كان هناك صوت ما واضحا وأكثر تحديا من تلك العتمة نفسها التي عند الزاوية " إن الحمير تعرف بعضها ".

        إلتفت رؤوس الحضور بالقاعة كلها باتجاه منبع الصوت، تلك الزاوية، فتحت إضاءة القاعة كلها، عم الهمس واللمز المكان، كانت العيون كلها تتجه باتجاه تلك الزاوية، لم يستطع إبراهيم وسالم ان يلتفتا أبدا لحمدان الذي جلس واثقا، فقط النساء اللاتي يجلسن بجانبه في نفس الطاولة من إلتفتن إليه، تلفت هو للطاولة التي تقع خلفه وكأنه يبحث عن منبع الصوت، نزل الشاعر من على المنصة، نزل أكثر، نزل من منصة المسرح يريد أن يخرج من القاعة، نهضت البشوت لاحتوائه وتهدئته، عم الهرج والمرج الأمسية، نهض حمدان، باغته سالم بأن قبض يده يريد ان يجلسه، كان يريد الحمام، خرج من مكانه ومن القاعة للرواق الذي تقع في أقصى طرفه الحمامات، تبعه سالم وإبراهيم بعدما شعرا إن كافة العيون تراقبهما، عندما خرج حمدان من الحمام هجما عليه واقتاده إلى السيارة، قفلا راجعين إلى القرية، علا صوت إبن عمه سالم وأخيه إبراهيم متوعدين ونادمين وموبخين له، كانت الساعة تشير الى ما بعد الثامنة، توسد حمدان يمينه في الكرسي الخلفي للسيارة ونام وهو يحلم بالمشاهد الجميلة التي مرت به في مسقط.


[1] " هؤ هؤ هؤ" عبارة محلية تحيل إلى الاعجاب المبالغ بشيء ما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق